الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد قدمتُ في الحلقات السابقة قيمة اللغة العربية ومكانتها في نفوس المسلمين، وضرورة رجوعنا إلى ينابيعها الصافية؛ لننهل من زلالها المعين، ونرتع في روضها البهيج، وهو ما سينفعنا في فهم كلام الله وسنة رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وتآليف السلف الصالح رحمة الله عليهم.
وبينتُ -نقلا عن علمائنا الأجلاء وباحثينا الأكفاء- بعضَ الأخطاء اللغوية الشائعة، التي يجب علينا الخلاصُ منها كتابة وكلاما، وتحدثتُ عن (الكاف الاحتلالية)، وكلمة (ساهم)، ثم الفعلين (شكرتك ونصحتك) .
ومن الأخطاء الشائعة التي يكثر استعمالها في خطاباتنا وكتاباتنا، قولُ القائل: (هذا خطأ بسيط)، وقولُ المتعلم لأستاذه: أرجو أن تبسط لنا هذه المسألة، وقولهم: رجل بسيط، وفي ذلك يقول الدكتور تقي الدين الهلالي رحمه الله: “وذلك كله خطأ، قال صاحب (لسان العرب): ورجل بسيط: منبسط بلسانه، وقد بسط بساطة..” .
وقد اتضح مما نقله الهلالي عن ابن منظور صاحب أعظم معجم لغوي عربي، أن البساطة مصدرُ الفعل (بسط)، الذي يعني: جعلَ الشيء منبسطا، أي واسعا، كما قال تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} (الشورى/12)، وكما في قوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} (الرعد/48).
فالآية الأولى تعني أن الله الغني هو المتصرف في رزقه، فمن شاء جعل له رزقا واسعا وافرا، ومن شاء لم يجعل له كذلك، والثانية تدل على أن الله يتحكم في توزيع السحب ونشرها في السماء كيف شاء، وفي هذا دليل على أن البساطة تعني توسيع الشيء وتفصيله، أما الاستعمال المعاصر لهذه الكلمة، فيحصل منه نقيض قصد من وظفها في كلامه.
يقول الشيخ الهلالي رحمه الله: “فقد رأيت أن (البسيط والبساطة) لا يدلان على ما يريد الكتاب بهما؛ فإنهم يريدون بالبسيط من الناس الغرَّ والمغفل، ويريدون بالبسيط من الأمور السهلَ الهينَ، وذلك كله بعيد عن استعمال العرب، بل هو ضده؛ لأن البسيط في اللغة العربية هو الواسع، ومن أجل ذلك سميت الأرضُ بسيطة، لسعتها” .
إن هذا الخطأ اللغوي قد تسلل إلى لغتنا الفصيحة من اصطلاح الأطباء القدماء على الدواء المصنع من مادة واحدة بالبسيط، والمركب للدواء المصنوع من أكثر من مادة، ثم انتقل الخطأ إلى الفلاسفة، فقالوا: جهل بسيط وجهل مركب، ويقصدون بالجهل البسيط أن يعترف المرء بأنه جاهل، فيكون أهون وأسهل، أما الجهل المركب فهو عدم إدراك الجاهل بأنه جاهل، فيكون جهله مضاعفا.
وفي ذلك يروي الهلالي قصة طريفة هي: “قال بعض الشعراء:
قال حمارُ الشيخ توما لو أنصفوني ما كنت أُركَبُ
لأن جهلي غدا بسيطا وراكبي جهله مركب
ومما يحكى من أخبار هذا الطبيب أنه قرأ في كتابٍ (الحبة السوداء شفاء من كل داء)، فقرأها خطأ (الحية السوداء شفاء من كل داء)، فأخذ حية سوداء وصار يعالج بها المرضى، فكانوا يموتون من سمها” .
ظهر لمحبي لغة الضاد أن قائل مثل هذه العبارة: (تبسيط قواعد النحو)، يستفاد من كلامه خلافُ ما يقصدُ؛ إذ إنه يريد بجملته تلك تيسيرَ قواعد النحو وتسهيلها، لا بسطها وتوسيع الكلام فيها بما سيتعب المتعلم المبتدئ، وقد كان علماؤنا السابقون واعين بلغتهم الجزلة المبينة؛ لذلك ألف ابنُ مالك رحمه الله كتابا في النحو سماه: “التسهيل”، وجاء أبو حيان الأندلسي فشرحه في مجلدات، وسماه: “شرح التسهيل”، ولو وسمه بـ”تبسيط التسهيل” لكان مقصوده صحيحا معنى ولغةً.
قد يمكن لمعترض أن يتعلل بأنه يجوز في بعض الكلمات التي أشير إلى أنها أدخلت الضيم على لغتنا الشريفة الوجهان معا، فأقول له -والحالة هذه- إن الأصل هو النظر في لغة القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية، ثم في عبارات الصحابة الكرام التي نقلت عنهم كما قالوها وصح إسنادها إليهم، ثم الحرص بعد ذلك على التكلم والكتابة بها؛ لأن القرآن الكريم -كما لا يخفى- نزل بأنقى وأرقى وأفصح وأجزل ما تكلمت به العرب في الجاهلية وبعدها، فكان من ثمة خيرَ معين على امتلاك لغة عربية فصيحة لا مدخل للطعن فيها، أما باقي الأوجه الأخرى التي تكلمت بها العرب، فلا أحد ينكر كونها لهجة عربية، إلا أنه لا ينبغي لنا أن نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ومثال ذلك أننا نترك هذه العبارة (ينبغي لك)، ونستبدل بها العبارة المشهورة (ينبغي عليك)، والقرآن الكريم يقول: {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ}(الفرقان/18)، أما إذا أخلصنا نياتنا لله عز وجل في الاقتداء بلغة كتابه الكريم، فإن الأجر سيتضاعف بإذن الله ورحمته، فنجني فضل خدمة اللغة العربية بإحيائها من جديد، وفضلَ تعظيم لغة القرآن الكريم باستعمال عباراته وأساليبه البديعة.
يقول الهلالي عليه رحمة الله: “ومن المعلوم أن القرآن هو أول كتاب ينطق بلغة العرب الخالصة، ولا يستطيع أحد معرفة اللغة العربية وفصاحتها وبلاغتها وأسرارها، إلا بدراسة القرآن واتخاذه إماما ومنارا يُهتدَى به في علومها.. والخطأ الذي نحن بصدد إصلاحه ، لا يقع ويشيع إلا في أمة أهملت القرآن؛ لأن هذا الفعل تكرر استعماله في القرآن، فجاء في ستة مواضع” .
وأختم هذه الحلقة بنقل تقريع فيه شدة لعالم جليل يدري ما يقول، ويعلم شناعة ما نحن عليه من ضعف لغوي؛ إذ قال في هذه الأخطاء اللغوية: “وهذا دليل على إهمال اللغة، وطرح العناية بها جانبا، وذلك شأن الأمم المخذولة المنحطة، السائرة إلى الاضمحلال، وقد رأينا أسلافنا كيف اعتنوا بلغة القرآن، وخدموها أحسن خدمة.. وحققوا معاني كلماتها، وتركيب جملها، وجودة أسلوبها وبلاغتها، وتركوها لنا في غاية الكمال والجمال، فلم نكن خير خَلَف لخير سَلَف”
وللكلام تتمة إن شاء الباري.