نصر الله تعالى للطائفة المؤمنة الصابرة وتمكينه عز وجل لها في الأرض، وعد رباني، وعهد إلهي لا يماري فيه إلا جاحد معاند، يقول الله عز وجل: “وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ” الصافات:171-172-173.
وكلما رسخت العقيدة في القلوب واستحكم الإيمان في النفوس، وأيقن المؤمنون بالنصر، وإن كانوا قلة، إلا ولاحت بشائر هذا النصر وعجل الله بالفتح ولو بعد حين، يقول الله تعالى: “قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ” البقرة:-249 250-251.
والتاريخ الإسلامي شاهد على ذلك منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وستظل هذه سنة الله تعالى في الكون وفي الأمم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والناظر في التاريخ الإسلامي يجد أن عددا كبيرا من الانتصارات والفتوحات الإسلامية وقعت في شهر رمضان، وهذا لا يعتبر أمرا مستغربا على أهل الإيمان، بل هو أمر طبيعي لما يختص به هذا الشهر الفضيل من تقرب المؤمن إلى ربه بالصيام والقيام، ومن شحذ للنفوس وتعبئة للهمم وتقوية للعزائم وضبط للنفس على الصبر وتحمل المشاق والمحن، ومن ارتقاء في درجات الإيمان ومواظبة على تلاوة القرآن، فكل هذه العوامل مجتمعة تتضافر فيما بينها، لتنشئ تلك الطائفة الصائمة المتحدة على قلب رجل واحد لا تخاف في الله لومة لائم، غايتها نشر دين الإسلام وإعلاء كلمة التوحيد ومحاربة كل طاغوت، قال رسول الله صلى الهذ عليه وسلم: “مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى” رواه مسلم:1878.
فهذه بعض من أبرز تلك الانتصارات الخالدة والفتوحات الحاسمة للجيوش المسلمة خلال شهر رمضان، على مرِّ التاريخ الإسلامي، عساها تكون لنا عبرة ودرسا لإدراك صدق التوكل على الله عز وجل وفهم معنى الصبر في سبيله تعالى ومعرفة قيمة الصمود نصرة لهذا الدين.
1. معركة بدر الكبرى:
كانت من أعظم انتصارات المسلمين على عصابة الشرك من كفار قريش وحلفائهم، ولم يتجاوز عدد المسلمين الثلاثمائة وثلاثة عشر مقاتلا (313) وقيل ثلاثمائة وتسعة عشر (319) أمام ألف مقاتل من المشركين، فانتصر فيها المسلمون نصرا مؤزرا، يقول الله تعالى: “وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” آل عمران:123.
“بلغ المسلمين تحرك قافلة تجارية كبيرة من الشام.. يقودها أبوسفيان.. فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بَسْبَس بن عمرو لجمع المعلومات، فلما عاد بالخبر اليقين، ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للخروج، وقال لهم: “هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوالُهُم، فَاخْرُجُواْ إِلَيْها لَعَلَّ الله يُنْفِلْكُمُوهَا”، وكان خروجه من المدينة في اليوم الثاني عشر من شهر رمَضان المبارك من السنة الثانية للهجرة..”. علي محمد الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، ص:391.
2. فتح مكة:
وكان في العاشر من رمضان من السنة الثامنة للهجرة، فعاد الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته رضوان الله عليهم، إلى مهد الوحي وأعز البلاد إلى قلبه، منصورا بالله مؤيدا بفتحه تعالى حامدا له على هذه النعمة، يقول الله عز وجل: “إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا” النصر.
“…ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتنظيف الكعبة من الصور والتماثيل، وهدم الأصنام. وأعاد عثمان بن طلحة مفتاح الكعبة، وقال له: “اليوم يوم بر ووفاء”. وكان فتح مكة في العاشر من رمضان سنة 8هـ…”. أحمد راتب عرموش، قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم السياسية والعسكرية، ص:125.
3. فتح الأندلس:
كانت بداية الفتح مع أول سرية تدخل بلاد الأندلس بقيادة طريف البربري: “فاستشار موسى بن نصير الوليد بن عبد الملك… فأشار الوليد بأن يختبرها (أي الأندلس) بالسرايا، ولا يغرر بالمسلمين؛ فبعث موسى بن نصير عند ذلك رجلا من البربر، يسمى طريفا ويكنى أبا زرعة، في مائة فارس وأربعمائة راجل؛ فجاز في أربعة مراكب، حتى نزل في ساحل البحر بالأندلس، فيما يحاذي طنجة، وهو المعروف اليوم بجزيرة طريف، سميت باسمه لنزوله هنالك؛ فأغار منها على ما يليها إلى جهة الجزيرة الخضراء، وأصاب سبيا ومالا كثيرا، ورجع سالما. وكانت إجازته في شهر رمضان من سنة91…” ابن عذاري، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، ص:203.
وقد استكملت جيوش القائد طارق بن زياد فتوحات الأندلس في السنة التي تعقبها في نفس الشهر، فانتصر المسلمون في المعركة الشهيرة ضد لذريق: “..وسار بهم طارق بن زياد بحذاء الساحل ثم سار بهم قاصدا قرطبة… وبعث عيونه يتجسسون أخبار لذريق… وفي يوم الأحد الثامن والعشرين من رمضان سنة اثنتين وتسعين للهجرة اشتبك الجيشان في معركة حمي وطيسها طوال ذلك اليوم… وفي النهاية وقعت الفوضى في جيش لذريق واضطرب نظامه ولاذ من بقي منه بالفرار…”. عبد العزيز بن راشد العبيدي، من معارك المسلمين في رمضان، ص:45-46.
4. فتوحات المسلمين في فرنسا:
بعدما تمكن المسلمون من الأندلس وأحكموا قبضتهم عليها، وجهوا جبهات فتوحاتهم إلى فرنسا على يد القائد المسلم، السمح بن مالك الخولاني، “..وتوالى الولاة على الأندلس حتى إذا تولى السمح بن مالك الخولاني، اتجه نحو الجهاد في جنوب فرنسا، والحقيقة أن هذا الوالي كان من أفاضل عرب أفريقية، ولاه الخليفة عمر بن عبد العزيز ولاية الأندلس، لما عرف عنه من الأمانة وحسن الخلق، وذلك في شهر رمضان سنة مائة هجرية…” . عبد العزيز بن راشد العبيدي، من معارك المسلمين في رمضان، ص:50.
5. معركة عين جالوت:
هذه المعركة التي حقق فيها المسلمون نصرا عظيما على التتار: “..وفي يوم 15 رمضان 658هـ (3 سبتمبر 1260م) في موقع “عين جالوت” ، التقى جيش المغول بجيوش المصريين حيث دارت المعركة بين الفريقين… وقد اشترك السلطان قُطُز في المعركة وقاد الهجوم بنفسه… إذ التف الجنود المصريون حوله، وحملوا على المغول حملة صادقة… فكتب الله لهم النصر المبين على أعدائهم، وانهزم المغول هزيمة منكرة…”. فؤاد عبد المعطي الصياد، المغول في التاريخ،ص:308-309.
6. موقعة شقحب قرب دمشق:
وشاء الله تعالى بأن يعود التتار مرة أخرى لغزو الشام، فتصدى لهم المسلمون في جيش اتحدت فيه جنود الشام مع جنود مصر، وقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية باع كبير في تعبئة المسلمين واستنهاض هممهم والجهاد معهم، فكتب الله لهم النصر: “…وفي رمضان سنة اثنتين وسبعمائة هاجم المغول بلاد الشام في جيش كثيف… وجهود الشيخ ابن تيمية قد أثرت في الناس فثبتوا أمامهم ودافعوهم… وفي يوم السبت الثاني من رمضان سنة اثنتين وسبعمائة التحم الجيشان… فانهزم المغول وتم النصر للمسلمين…”. عبد العزيز بن راشد العبيدي، من معارك المسلمين في رمضان، ص:79-80.
ومحافل انتصار المسلمين في هذا الشهر الكريم كثيرة، وملاحم فتوحاتهم عديدة لا مجال لذكرها جميعا، فالعبرة المستفادة منها هي القناعة بأن رمضان هو شهر الزيادة في العمل ومضاعفة البذل والاجتهاد في الطاعة، وهو فرصة استثمار قوة الإيمان وثبات القلب في هزم الباطل وإظهار الحق.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأعل راية الحق والدين.
والحمد لله رب العالمين.