خصصتُ هذا الفصل للإجابة عن أهم القضايا الفكرية التاريخية التي أثارها بحثنا عن مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي-، وسأذكر منها سبع قضايا بحول الله تعالى.
أولا: قضية ترجمة العلوم القديمة إلى اللغة العربية:
تطرقنا في الفصل الأول إلى موضوع ترجمة العلوم القديمة إلى اللغة العربية، وكانت الفلسفة اليونانية على رأسها، فهل ترجمتها كانت ضرورية للمسلمين؟ وهل تمت ترجمتها بطريقة سليمة نافعة؟
فبخصوص التساؤل الأول فإنني أقول: إن ترجمة تلك العلوم إلى اللغة العربية لم تكن ضرورية مطلقا؛ وإن كان الإسلام لا يحرم على أهله الانتفاع بما عند غيرهم من خيرات ومحاسن، وتجارب مفيدة وعلوم نافعة، لكن مع ذلك فإن ترجمة تلك العلوم لم تكن ضرورية للمسلمين، فقد عاشوا بدونها قرنين من الزمن، ولو لم تترجم تلك العلوم إلى اللغة العربية لنمت و ترعرعت العلوم الطبيعية والرياضية في المجتمع الإسلامي نموا طبيعيا، لأنها علوم ضرورية لا يستغني عنها مجتمع من المجتمعات البشرية، وقد كانت أصولها قائمة في المجتمع الإسلامي، نشأت في ظل الإسلام نحو قرنين من الزمن، استجابة لأمرين أساسين، أولهما أن الإسلام يحث على كل العلوم النافعة، ويدعوا إلى النظر في الأفاق والأنفس، وفي كل مظاهر الكون لاكتشاف قوانينه وتسخيره لخدمة الإنسان، هذا فضلا على أن بعض عباداته وأحكامه لا بد لها من رياضيات وفلك، كالمواريث وأوقات الصلاة والحج، وثانيهما أن الحاجة لتلك العلوم حاجة ماسة، تجعل نشأتها في المجتمع الإسلامي -الواسع المتنوع الأعراق والأجناس- أمرا ضروريا دون الحاجة إلى ترجمة العلوم القديمة.
وأما بالنسبة للتساؤل الثاني، فأنني أقول: إن تلك الترجمة تمت بطريقة خاطئة، واكبتها سلبيات كثيرة، من ذلك أن الحاجة لترجمة علوم الأوائل لم تصدر عن حاجة داخلية حقيقية للمجتمع، وإنما صدرت عن رغبة أفراد قليلين جدا على رأسهم فرد معتزلي متفلسف مبهور بعلوم الأوائل، هو الخليفة العباسي المأمون.
كما أن عملية الترجمة لم تتم بأمر من علماء الأمة، ولا بإشراف منهم، ولا تمت على أيدي مسلمين سنيين ملتزمين أتقياء متخصصين في الترجمة وعلوم الأوائل، وإنما معظم الذين تولوها هم من أهل الذمة، ونحن لا نثق في هؤلاء، ومن حقنا أن لا نثق فيهم، لقوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) سورة البقرة 120 و(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم) سورة المائدة 51.
ومما يبين أن نوايا هؤلاء المترجمين لم تكن خالصة، أنهم ترجموا أمورا تتناقض مع الإسلام كلية، وتدمر المجتمع الإسلامي تدميرا، ولا يجوز ترجمتها شرعا، على رأسها إلهيات اليونان المليئة بالضلالات والشركيات؛ فلو تولى الترجمة مسلمون أتقياء ما ترجموا ذلك، وإن ترجموها فإنهم يردون عليها، ويُحذّرون منها.
ومنها أيضا أن تلك العلوم تُرجمت دون تمحيص وتمييز بين صحيحها من سقيمها، وهذا خطأ فادح صاحب عملية الترجمة؛ فكان من اللازم أن تُترجم العلوم الضرورية النافعة، كالطب والهندسة، مع الشروح والمقدمات والتنبيهات والتحذيرات؛ وأن لا تُترجم العلوم الضارة المعارضة للشرع، ككتب السحر والشعوذة، وإلهيات اليونان ومنطقهم.
وقد يرى بعض الناس في ترجمة العلوم القديمة إلى اللغة العربية عملا حضاريا إيجابيا، وهذا رأي وجيه فيه جانب كبير من الصحة، لو أن العملية تمت بطريقة صحيحة وعلى أيدي أمينة، وبما أنها تمت بطريقة خاطئة مليئة بالنقائض والسلبيات فعدمها أولى من ترجمتها.