من المقرر في العلم أنه لا طريق إلى فهم موضوع إلا بفهم مصطلحاته، وهو ما حدى بي لتخصيص جزء من هذه المقالات لبيان معاني الألفاظ والمصطلحات الأساسية في موضوعنا؛ وهي: السياسة، السياسة الشرعية، نظام الحكم الإسلامي، الدستور، والقانون.
وأبدأ بمصطلح السياسة الشرعية:
السياسة في اللغة: مشتقة من مادة (س و س)، وتأتي لمعان أجمعها: “القيام على الشيء بما يصلحه”.
أما السياسة في الاصطلاح؛ فقد ذكر لها العلماء تعاريف يمكن أن نجمعها في قولنا: “تدبير أمر الرعية العام بما يحقق المصلحة”.
التدبير1 : هو التصرف في الأمور مع النظر في أدبارها وعواقبها.
الأمر: اسم من أسماء الْأَجْنَاسِ العامة، وإضافة اسم الجنس قد تفيد العموم بمعونة المقام، أي جميع أمورهم، ولذلك قيدتها بالعام (الأمر العام)؛ أي: الشؤون العامة للناس، وهي مجال عمل وتدبير الدولة، بخلاف الأحوال الفردية للناس؛ فلا دخل للدولة فيها إلا ما كان منها راجعا لضمان حق أسند ضمانه للدولة 2.
الرعية: عامة الناس، أي عمومهم، ويتضمن اللفظ هنا أيضا معنى الرعاية؛ قال علماء اللغة: “وراعَيتُهُ؛ من مراعاة الحقوق”.
فالرعية مجال التدبير السياسي، والرعاية سمته.
المصلحة:
3أطلقتُها لتشمل: الدنيوية والأخروية :
4ومراعاة الأخروية هو الذي يميز السياسة الشرعية عن السياسة غير الشرعية، وتسمى اليوم: السياسة المدنية أو العلمانية .
وهذه المراعاة تقتضي طاعة الله تعالى بتطبيق شرعه؛ لأنه لا نجاة للفرد في الآخرة بغير طاعة الله، ولا فلاح للجماعة في الدنيا والآخرة بغير العمل بشرع الله.
قال العلامة عبد الرحمن ابن خلدون: “إذا كانت القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدّولة وبصرائها كانت سياسة عقليّة (مدنية)، وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقرّرها ويشرّعها كانت سياسة دينيّة نافعة في الحياة الدّنيا وفي الآخرة؛ وذلك أنّ الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط فإنّها كلّها عبث وباطل إذ غايتها الموت والفناء، والله يقول: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً».
فالمقصود بهم إنّما هو دينهم المفضي بهم إلى السّعادة في آخرتهم: «صِراطِ الله الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وَما في الْأَرْضِ»؛ فجاءت الشّرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة، حتّى في الملك (السياسة) الّذي هو طبيعيّ للاجتماع الإنسانيّ؛ فأَجرته على منهاج الدّين ليكون الكلّ محوطا بنظر الشّارع”.
ثم قال:
“الشّارع أعلم بمصالح الكافّة فيما هو مغيّب عنهم من أمور آخرتهم، وأعمال البشر كلّها عائدة عليهم في معادهم من ملك أو غيره؛ قال صلّى الله عليه وسلّم «إنّما هي أعمالكم تردّ عليكم»، وأحكام السّياسة إنّما تطلع على مصالح الدّنيا فقط: «يَعْلَمُونَ ظاهِراً من الْحَياةِ الدُّنْيا»، ومقصود الشّارع بالنّاس صلاح آخرتهم؛ فوجب بمقتضى الشّرائع حمل الكافّة على الأحكام الشّرعيّة في أحوال دنياهم وآخرتهم وكان هذا الحكم لأهل الشّريعة وهم الأنبياء ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء.
فقد تبيّن لك من ذلك معنى الخلافة وأنّ الملك الطّبيعيّ هو حمل الكافّة على مقتضى الغرض والشّهوة والسّياسيّ هو حمل الكافّة على مقتضى النّظر العقليّ في جلب المصالح الدّنيويّة ودفع المضارّ والخلافة (أي: السياسة الشرعية) هي حمل الكافّة على مقتضى النّظر الشّرعي في مصالحهم الأخرويّة والدّنيويّة الرّاجعة إليها؛ إذ أحوال الدّنيا ترجع كلّها عند الشّارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة؛ فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدّين وسياسة الدّنيا به”اهـ 5.
فالسياسة السائدة في عصرنا لا تهتم بآخرة الإنسان وبالتالي لا تلتزم بأحكام الدين، ومن هنا تعين تقييد لفظ: السياسة بلفظ: الشرعية؛ نسبة إلى الشرع.
والشرع هو الشريعة، وهي: ما سن الله تعالى من الدين وأمر به 6.
ومما تقدم يمكن أن نقول:
معنى السياسة الشرعية: “تدبير أمر الرعية العام بالتزام ما شرع الله تعالى من الدين”.
واعلم أيها القارئ الكريم أن الفقهاء -لا سيما الحنفية- رحمهم الله كانوا يستخدمون لفظ السياسة مجردا عن الإضافة؛ وقد سمى الإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت 187) تلميذ الإمام أبي حنيفة رحمهما الله تعالى؛ سمى كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: كتاب السياسة 7.
فلما كثر من الحكام؛ ارتكاب المخالفات الشرعية في تدبيرهم للشأن العام؛ استعمل الفقهاء مصطلح السياسة الشرعية الذي لم يرد -في حدود علمي-؛ في كلام السلف والفقهاء المتقدمين، وإنما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ثم تلميذه الإمام ابن القيم رحمهما الله تعالى، ومن ثم انتشر.
وقد عرف علم السياسة الشرعية ازدهارا كبيرا وعرفت مواضيعه تحريرات وتأصيلات مهمة عند فقهاء المالكية رحمهم الله؛ الذين عرفوا أكثر من غيرهم بالعناية بجمع فقه النوازل ومسائل الأقضية.
وقد كان هذا من أسباب قوة السلطة القضائية في الأندلس 8:
قال المقري في نفح الطيب9 : “أما خطّة القضاء بالأندلس فهي أعظم الخطط عند الخاصة والعامة، لتعلّقها بأمور الدين، وكون السلطان لو توجّه عليه حكم حضر بين يدي القاضي”اهـ.
وهذا التصرف من علماء المالكية يدل على أنهم يعتبرون القضاء جزءا مهما في التدبير السياسي وبابا جوهريا في السياسة، ومعلوم أن الأقضية والنوازل لها ارتباط -في الغالب- بموضوع: السياسة.
ولذلك نص العلماء الذين ألفوا كتب الأقضية؛ أنها موجهة إلى الحكام من أمراء وقضاة:
قال القاضي أبو الوليد الباجي (ت 474) في مقدمة كتابه (فصول الأحكام في بيان ما مضى عليه العمل عند الفقهاء والحكام): “لما رأيت ما ابتلي به الفقهاء والحكام، من النظر والفتوى بين الأنام، في الأحكام، بادرت بكتابي هذا وخرجت غرر المحاضرة، ورؤوس مسائل المناظرة، مما لا يستغني الفقيه ولا الحاكم عن مطالعتها، والوقوف على أصولها”اهـ.
وقال الطليطلي في مقدمة كتابه (منتخب بيان الأحكام وبيان ما عمل به من سير الحكام)؛ عن مسائل الكتاب: “لا ينبغي للحاكم إغفالها”.
وسمى ابن سلمون كتابه: (العقد المنظم للحكام).
وقد تقدم أن محمد بن الحسن سمى كتاب عمر رضي الله عنه في القضاء: كتاب السياسة.
وشرحه ابن القيم في الإعلام على أنه وثيقة مرجعية في السياسة الشرعية.
فائدتان:
1- ما درج عليه فقهاء المالكية؛ من اعتبار القضاء جزءا مهما في التدبير السياسي، هو ما أخذت به الدساتير ومناهج الحكم الحديثة التي تجمع على جعل القضاء سلطة من السلط السياسية.
2- ما ذكره المقري من “كون السلطان لو توجّه عليه حكم؛ حضر بين يدي القاضي”؛ فيه إشارة إلى ما سبق إليه الفقه السياسي الإسلامي من خلال سنة الخلفاء الراشدين؛ من مبدأ استقلالية القضاء ونزاهته، فهو مبدأ سياسي في نظام الحكم الإسلامي وليس من إبداع النظم الديمقراطية الحديثة.
يتبع بإذن الله تعالى..
—————-
1-الْفرق بَين السياسة وَالتَّدْبِير: أَن السياسة فِي التدبير المستمر وَلَا يُقَال للتدبير الواحد سياسة؛ فَكل سياسة تَدْبِير وَلَيْسَ كل تَدْبِير سياسة. انظر: الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري.
2- ومن ذلك: قيام أهل الحسبة وهيآت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أداء التجار صلاة الجماعة.
3- قلت: إطلاق المصلحة يشمل أيضا: تحقيق مصلحة الحاكم والمحكوم؛ وعليه فإن السياسة الشرعية تضمن: حق الحاكم؛ من إعانة وطاعة ونصيحة ..، وحق المحكوم؛ من عدل وكرامة ونصيب في الثروة ..إلـخ.
4-جاء في تكملة المعاجم العربية (6/ 186): “السياسة المدنية: القانون المعمول به، مقابل الشريعة”.
5- تاريخ ابن خلدون (1/ 238).
6- معجم مقاييس اللغة لابن فارس.
7- انظر: بدائع الصنائع للكاساني (9-117).
8- كما أنه كان من أسباب تربع الفقهاء المالكية على هرم السلطة التشريعية في المغرب؛ لا سيما في عهد المرابطين.
9- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (1/ 217) تحقيق إحسان عباس.