لا شك أن الرقابة على المال العام قديمة بقدم التعاملات المالية، وذلك لأن هذا المال له دور أساس في تسيير مجالات الحياة.
والحديث عن وظيفة المحاسب العمومي ليس حديثا عن وظيفة حديثة لم تعرف في التاريخ، بل هي وظيفة صاحبت النظام المالي الإسلامي منذ نشأته وإن اختلفت مسالكها الإدارية وطرائقها التدبيرية، لأن مقصد الوظيفة الذي هو حماية المال العام، وسبيلها الذي هو الإشراف على تنفيذ العمليات المالية تحصيلا وإنفاقا كان حاضرا بشكل واضح في النظم المالية منذ بداية الدولة الإسلامية، وهذه نظرة عامة حول تطور العمليات المالية وأشكال الرقابة التي مورست عليها في بداية الدولة الإسلامية، وكذا في مرحلة الحماية وما بعدها.
أولا: الإشراف على العمليات المالية في النظام الإسلامي
كانت موارد الدولة الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم قاصرة على الغنائم والصدقات والجزية التي صولح عليها أهل الكتاب، وكان كلما يرد من هذه الموارد يصرف في مصرفه ساعة يرد، قال شيخ الإسلام بن تيمية: “ولم يكن للأموال المقبوضة المقسومة، ديوان جامع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر رضي الله عنه، بل كان يقسم المال شيئا فشيئا”(1).
فالغنائم تقسم أربعة أخماسها بين الغانمين وخمسها يقسم على ما بيَّن الله في كتابه، والصدقات توجه في مصارفها التي بينها الله في كتابه، والجزية تنفق في حاجات الغزو والجهاد وسائر المصالح العامة، وما كان ذاك فضل للإيراد على المصروف، وما مست الحاجة إلى حفظ مال في بيت مال وما أهملت مصلحة عامة، ولا أخذ منفرد غير ما يجب.
وكان المبدأ العام لتقييم المخالفات المالية اعتبار أن كل ما أخذه ولاة الأموال وغيرهم من الجباة من مال المسلمين بغير وجه حق، أو بما يتجاوز المستحق وكلما صرف في غير وجه حق أو باطل هو نوع من “الغلول”، الذي فسره العلماء والباحثون بأنه كل استعمال لأموال المسلمين يخالف قواعد الحق والعدالة بمفهومهما الواسع، سواء في ذلك أخذ القائمون على الأموال من غير حقه أو وضعوه في غير حقه.
وبهذا المعنى اتسعت مخالفة الغلول لتشمل جريمة خيانة الأمانة والاختلاس والرشوة وإضاعة الأموال العامة للدولة بغير حق(2).
والأصل في الغلول قوله تعالى: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}(3).
وكذا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم حينما كلف أحد الجباة على جمع الصدقات والزكاة، فلما جاء إلى الرسول، قال: “هذا الذي لكم، وهذه أهديت إلي”، فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “ما بال الرجل يستعمله على العامل مما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي، فهلا جلس في بيت أبيه وبيت أمه فينظر أيهدى إليه أو لا، والذي نفسي بيده لا يأخذ منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته”(4).
وكذلك كانت حال المالية في عهد أبي بكر رضي الله عنه، فلم يكن في الدولة مال مدخر، وكل ما يرد يوجهه في مصارفه، حتى إنه لما توفي رضي الله عنه لم يجدوا عنده من مال الدولة إلا دينارا واحدا.
ولما اتسعت الدولة الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه وفتح الله للمسلمين أرض الشام ومصر وفارس زاد إيراد الدولة، وبلغ إيراد ما يجبى من الخراج والعشور وسائر الموارد الشرعية مبلغا لفت المسلمين إلى وجوب ضبطه، وحصر أرباب المرتبات، وتقدير الحقوق والأعطيات وسائر أبواب المصالح العامة، فاتخذ عمر رضي الله عنه ديوانا ضبط فيه الدخل والخراج وأحصى أرباب الاستحقاق ومقادير ما يستحقون وأوقات الصرف لهم، واتخذ بيت مال للمسلمين يحفظ فيه ما زاد من إيراد الدولة على مصروفاتها للإنفاق منه على ما يطرأ من الحاجات وما يجد من المصالح(5).
ولا شك أن مصطلح بيت المال مصطلح إسلامي لم تعرفه الحياة الجاهلية، فما كان في المجتمع الجاهلي دولة قائمة يقوم عليها حاكم توضع في يده أموال عامة ينفق منها في شؤون المجتمع، باستثناء ما كان من جمع للمال في بعض الظروف الطارئة(6).
واحتفظ الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنفسه بالإشراف الكامل على مالية الدولة، متحملا بذلك مسؤولية بيت المال، واستمدت لهذا الغرض وظائف مالية منها:
وظيفة العاشر: وهو الذي يقوم بأخذ عشور التجارة بعدما فرضت العشور في عهده.
وظيفة عامل الخراج: وهي وظيفة محلية توجد في البلدان التي سن عليها الخراج، ويقوم العامل بجمع خراجها.
وظيفة المصدق: وهي تدخل في وظائف العاملين على الزكاة الذين يقومون بجمع الصدقات من الناس، ويراجعون ما يملكونه من أموال ظاهرة ويتحققون من صحة بياناتها عند جمع الزكاة.
وظيفة الأقباض: وهي وظيفة تخص صاحب الجيوش الإسلامية الذي كان يقبض الغنائم ويقوم بتسليمها(7).
والملاحظ أنه بعد تدوين الدواوين أصبح ثمة ترابط بين مداخيل بيت المال ونفقاته، وهذا الترابط يقترب من مفهوم الميزانية العامة بالمفهوم المعاصر، والتي تعني تقريرا مفصلا للنفقات والمداخيل العامة.
وكانت مراقبة تلك التقديرات تتم عن طريق عمل ميزانية ختامية بالأرقام الفعلية لكل من الإيرادات والنفقات (حساب ختامي) لمقارنتها بتلك التقديرات حتى يمكن التأكد من تحقق الأهداف المطلوبة(8).
واستحدث عمر رضي الله عنه وظيفة المراقب العام وأسندها إلى محمد بن مسلمة، وكان وكيله على العمال يجمع الشكايات ويتولى التحقيق والمراجعة فيها ويستوفي البحث فيما ينقله الرقباء والعيون وهكذا(9).
وللبحث بقية نرجئها إلى العدد القادم بحول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) – ابن تيمية تقي الدين أبي العباس، “السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية”، ص:93.
(2) – الساهي شوقي عبده، “مراقبة الموازنة العامة للدولة في ضوء الإسلام”، ص:171-172.
(3) – آل عمران:161.
(4) – “السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية”، ص:99.
(5) – “السياسة الشرعية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية”، عبد الوهاب خلاف، ص:148.
(6) – “السياسة المالية في الإسلام”، عبد الكريم الخطيب، ص:48.
(7) – شوقي الساهي، “الفكر الإسلامي والإدارة المالية للدولة”، ص:27.
(8) – “الفقه الاقتصادي لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب”، جريبة بن أحمد بن سنان الحارثي، ص:27.
(9) – “الرقابة المالية في النظام الإسلامي”، الدكتور بسام وعوض، ص:51.