كما أن في الإيمان القويَّ والأقوى،فكذلك فيه الضعيف وفيه الأضعف؛ وهو مرغوب عنه شرعاً وإن أُذِنَ فيه للخير الكامن في بعض أهله رَفعاً للحرج عن ذوي الأعذار.
وإن كان من ذوي الأعذار من لا يرضى لنفسه أضعف الإيمان ويأبى إلا أقواه ولو حبسه عذره أو أرهقته مخمصته؛ فلسان حاله من الذين {إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92].
ومن لوازم العذر بالضعف أن لا يصدر من المُدَّعِي الضَّعْفَ؛ ما يؤيدُ المُنْكَرَ ولو تلميحاً، وليس كما يدعي البعض -عَمَلاً-؛ أن يصير إنكاره القلبي كالإقرار العملي للمُنْكَرِ، أو أَدْرَكَهُ مِسَاسٌ من شُبُهَاتِهِ؛ كأن يعترضَ على المؤمنِ الُمنْكِرِ للمُنْكَرِ الناصح بلسانه الذي آثر الله والدار الآخرة فقال للظالم: “اتق الله”.
فإن المعترض على هذا الأخير؛ يغري الظالم بأنه على حق فيزداد تطاوله، ويُضْعِفُ مُسْنَدَ مُنْكِرِ اللسان ويوهمه بأنه لا يجدَ أَزْراً ورِدْءا..
فهلمن أضعف الإيمان مع الظَّلمة فقط؟
وهل أَذِنَ له الشارع في الدعوة إلى أضعف الإيمان، أم هو رخصة واستثناء فقط؟
فإن قال قائل: أنا لا أسلم بأن “أضعف” هنا على بابها وأنها بمعنى ضعيف؛ وإنما هي بالنظر إلى الدرجات الأخرى، فهي صحيحة في نفسها ضعيفة مقايسةً بغيرها؛ على حد “وهو أهون عليه” أو قول المحدثين “أصح ما في الباب”..
قلت: لنا وجوه في تفنيد هذا التقييد ويكفينا هنا أن نقول له: حَمْداً للهِ أنْ سَلَّمْتَ بأنَّهُ “ضَعِيفٌ” وهو المرادُ، دونَ الخَوْضِ في نسبية قُوَّتِهِ إلى غيره وقد جاء التصريحُ عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن ليس وراءه حَبَّةُ خَرْدَلٍ، وقد سبقت الإشارة إليه.
وهاهنا قرينة من فهم السلف تؤكد المعنى الذي نرومه؛ وهو قول الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري: “أمَّا هذا فقد قضى ما عليه”.
في سياق روايته الحديث كما في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: أخرج مروان المنبر في يوم عيد فبدأ بالخطبة قبل الصلاة فقام إليه رجلٌ فقال: الصلاةُ قَبْلَ الخُطْبَةِ.
وعند ابن ماجه بلفظ: “يا مروان خالفتَ السنة”.
فانظر كيف جهر بمناصحة الأمير-وذلك وجه-،وكيف لم يخذله الصحابي الجليل؛ بل زكاه أن أدى واجب التوجيه -دون فتنة-، وأنَّ التوجيهَ ليس فتنة كما يظن الخَوَّارونَ، ثم قَوَّاه بذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكرا فليغيره” الحديث.
وهذا عين دعوتنا: المناصرة في المناصحة دون مداهنة ولا مداهمة.
وهاهنا قرينة أخرى توضح ما جنحنا إليه -من الإذن بالمكروه من جواز الاقتصار على كره القلب-؛ وهي أن الحديث مؤسَّسٌ على معنى “تغيير المنكر” لا على “إنكار المنكر”؛ فإنكار المنكر-أي كما يقال في العامية:اللهم إن هذا منكر-؛ مسألةٌ منفصلةٌ والإذن فيها مطلقٌ بشرط العلم والحكمة.
وهذه المسألة هي الأصل الذي بنيت عليه خيريةُ الأمةِ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة في الدين: {كنتم خير أمة} الآية؛ فهو أصل من مباني الإسلام العظام التي لها تعلق بكل مجالات الحياة إقراراً وإنكاراً، فإذا ترقى القصد عن إنكار المنكر إلى درجةِ تغييره؛ لزمه حينها التزام مسؤولية السلطات تنفيذا وإجراء: “وكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته”.
ومسؤولية الكلمة هي رعية العلماء وهم رعاتها.
ودرجة التغيير-لا مجرد الإنكار-؛ هي الجهة التي أسس هذا الحديث المبارك كيفية التعاطي معها، وتبقى “الدرجة الأولى” قائمة مقام البيان والتذكير لمن يهمه الأمر؛ حتى لا يتعذر بجهل أو عدم بلاغ، وحتى لا يستدلَّ على إقرارٍ بسكوتٍ يُلَبِّسَنَّ على الناس دينهم الذي ارتضى الله لهم؛ من باب قوله تعالى:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
وقوله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115].
خاطرة عابرة:
لهذه الآية وقع على أفئدة المخبتين يجعلهم أشد خوفا وأنآى عن غرور بالرب الكريم؛ حتى وإن {هدوا إلى الطيب من القول} و{إلى صراط العزيز الحميد}؛ فإنهم عرضة للضلال ومفتقرون إلى بيان الله وتثبيتهم على تقواه،كما أنه قد يستعجل بعضهم النظر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم:”ستكونُ أُمراء فتعرفون وتنكرون؛ فمن عَرَفَ بَرِئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابَعَ”.
دون التمعن في ماهية الدرجات الثلاثة: “المعرفة الموجبةِ للبراءةِ” و”الإنكار الموجب للسلامة” و”الرضى الموجب للمتابعة”؛ فيستدلون به على”السكوت الموجب للاعتزال”، وترك النصح والبيان مع أنه يناقضه بالتصريح تماماً، ولربما عُدْنَا لِفَسْرِهِ لِتَرَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى.
فما أكثر من يحتاج لإماطة أذى الأغلاط والأغاليط عن نَجْدَيِ الفهمِ والتوقيعِ..
إذاً فقول رسولنا سيدنا محمد صلوات ربي وسلامه عليه: “وذلك أضعف الإيمان”؛ إنما ذُكِرَ -كما قال العز ابن عبدالسلام-؛لِيَعْلَمَ حَقارَةَ ما حصل في هذا القسم فيرتقي إلى غيره.
ولا يَخلو من الإرشاد إلى التنفير عنه والشعور بعدم مناسبته لقوة المؤمن ولعقيدة الوقار لله في قلبه: “ما لكم لا ترجونَ لله وقاراً”؟
وأنه يدركه رَهَقُ الحياء من الله أن يتقرب إلى الله بذاتِ هزالٍ، أو أن يجعل لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون، أو أن يجعلَ ما يصل إلى الله تعالى خيرا مما يصل إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها؛ قوة وشكيمة ورباطة جأش:{بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14-15].
بل إن الأمر كما قال تعالى:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 37-38].
سبحانك ربي ما أعظم شأنك مع أن إليك المنتهى ولا يُحاطُ بجلالك ولا تُبْلَغُ معارِجُ قُدْسِك -يا ذا الملكوت والجبروت والرحموت-؛ جعلت لأوليائك وصالحي عِبادِك “منالاً فيك” بدرجة التقوى “لعلهم يتقون”..
والله سبحانه أعلى وأعلم.