وهكذا.. كلما نُسي التوحيد أرسل الله رسولا، فيكذبه قومه، فيهلكهم الله وينجي الموحدين، قال تعالى: “ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ” وكما أن قوم نوح وقعوا في الشرك بسبب الغلو في الصالحين، فكذلك أمة نبينا e دخل عليها الشيطان من الباب نفسه. فترى من هذه الأمة من يدعو الصالحين ويستغيث بهم من دون الله وقد قال e: “الدعاء هو العبادة”.
خلق الله آدم من طين، وكان من شأنه مع إبليس ما قصه علينا رب العالمين، فتاب الله عليه بعد المعصية، وأنزله إلى هذه الأرض نبيا وأبا للبشرية، فمكث هو وذريته يعبدون الله لا يشركون به شيئا، ولا يعرفون لله في الأرض ندا ولا سَمِيًّا، وتصديق ذلك قوله تعالى: “كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيئينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ” (البقرة213)، قال ابن عباس: “كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين” صححه الحاكم على شرط البخاري، ووافقه الذهبي.
وفي الآية الأخرى: “وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ” يونس19. فكان أول ما وقع الشرك في الأرض في قوم نوح ، وكان سبب وقوعه الغلوّ في الصالحين، فما كان الله ليتركهم يعبدون غيره، وهو إنما خلق الخلق ليُعْبَدَ وحده لا شريك له، فبعث الله إليهم عبده نوح، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى التوحيد، فلما أصروا على الشرك شكاهم إلى ربه فقال: “رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً، وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً، وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً” نوح 21-23، هذه أسماء آلهتهم: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، قال ابن عباس فيها: “أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِم،ْ فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْم (أي: نُسي) عُبِدَتْ” (أخرجه البخاري)، فلما أبوا إلا الشرك أهلكهم الله فأغرقهم عن بكرة أبيهم، ونجىَّ نوحا والذين آمنوا معه، “فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ” (يونس73).
فطهّر الله الأرض من الشرك وأهله، ورجعت إلى التوحيد كما كانت أول مرة، ليس فيها إلا الموحدون، فبقي الأمر على ذلك ما شاء الله، ثم إن الناس بعد ذلك نسوا العلم والتوحيد فوقعوا في الشرك، فأرسل الله إليهم الرسول بعد الرسول قال تعالى: “وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ”الأعراف65، وقال تعالى: “وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ” الأعراف73، وقال تعالى: “وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ “الأعراف85.
وهكذا.. كلما نُسي التوحيد أرسل الله رسولا، فيكذبه قومه، فيهلكهم الله وينجي الموحدين، قال تعالى: “ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ” المؤمنون44 ، (تترا: يتبع بعضهم بعضا).
إلى أن ختم الله الرسالات بسيد المرسلين وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم فذكَّر الناس بالتوحيد، ودعاهم لمثل ما كان يدعو إليه إخوانه المرسلون “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا يوحى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ” الأنبياء25.
فرفع الله بنبيه راية التوحيد، وأظهر به الإسلام على كل دين قال تعالى: “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ” التوبة33.
ثم إنها جرت على هذه الأمة سنة الله التي لا تتخلف في الأمم، فلما بَعُدَ عهدُها عن نبيها وقع كثير منها في الشرك، ولكن هذه المرة ليس بعد محمد نبي، وإنما يقيم الله الحجة على الناس بالمجددين، قال : “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” (أخرجه أبو داود وصححه الألباني).
وكما أن قوم نوح وقعوا في الشرك بسبب الغلو في الصالحين، فكذلك أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دخل عليها الشيطان من الباب نفسه.
فترى من هذه الأمة من يدعو الصالحين ويستغيث بهم من دون الله وقد قال محمد صلى الله عليه وسلم : “الدعاء هو العبادة” ( أخرجه الترمذي وصححه) .
وترى منهم من يقدم لهم الذبائح و النذور، وقد قال تعالى: “فصل لربك وانحر” (الكوثر2) .
وتجد منهم من يحلف بهم، وقد قال محمد صلى الله عليه وسلم : “من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت” (متفق عليه).
وتجد من يتمسح بقبورهم وقد قال محمد صلى الله عليه وسلم للذين طلبوا منه ما يتبركون به: “الله أكبر إنها السنن لقد قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: “اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ” (الأعراف138)” (أخرجه الترمذي وصححه).
وترى… وتجد …
ونحن نقول أيضا: الله أكبر إنها السنن لقد وقعت هذه الأمة فيما وقعت فيه الأمم، ولسان حال بعضها يقول: لا تذَرُنَّ أضرحتَكم ومواسمَكم، ولا تذَرُن سيدي فلان، و فلان، ولا مولاي فلان، و فلان..
فعَوَّلت هذه الأمة على أمواتها ليدفعوا العدوان عن أحيائها، وذلك في زمن أخذت فيه الأمم بأسباب القوة.
وعَوَّلت على التمائم والحجب، ووَزَّعت اختصاصات الأمراض على الأولياء، وذلك في وقت انكبَّت فيه الأمم على علوم الطب واختصاصاته المتنوعة.
يا حسرة على أمة ضحكت من جهلها الأمم! يا حسرة على أمة ماتت فيها الهمم!
أليس هذا زمان العلوم والتكنولوجيا، وزمان التقدم وغزو الفضاء؟! فلماذا إحياء الجهل والشرك والخرافة؟
أما آن لهذه الأمة أن تتحرر من أسباب انحطاطها، وأن تفك قيود انطلاقها ونهضتها؟!
أما آن لها أن تَنْتَفِضَ من بين الأمم فتقول: ها أنا ذي؟