مع “عصيد” و”أهل الذمة” و”الجزية”.. نبيل غزال

إفراغا لكبته وتنفيسا عما يجيش في صدره ويتردد في خاطره ويستقر في قلبه من ضيق وحنق وحقد اتجاه الإسلام عقيدته وشريعته؛ عمد أحمد عصيد من جديد إلى الطعن في حُكم من أحكام الشريعة الغراء؛ وكعادته -التي نتمنى أن يغيرها- لم يلتزم الحياد العلمي في النقل؛ ولجأ إلى أسلوب رجعي ماضوي متخلف؛ يعتمد العبث بالتراث؛ ويبتسر الكلام ويقتطعه من سياقه ليخدم في الأخير أطروحته وفكره.
حيث خصّ مقاله المعنون بـ(الجزية وأهل الذمة توضيح الواضحات) للطعن هذه المرة في أحكام الجزية وأحكام أهل الذمة؛ وهذا ليس أمرا جديدا ولا سبقا تفرد به الكاتب المذكور؛ فقد سبقه إلى ذلك جحافل من المشككين؛ ومن المنصرين والمستشرقين والملاحدة والعلمانيين؛ ولم ينالوا والحمد لله من أحكام الله المُصلِحة لكل زمان ومكان شيئا.
وبداية يجب أن نعلم أن أحكام أهل الذمة وما يرتبط بها من أمور لم يخل منها كتاب من كتب الفقه على اختلاف المذاهب وتنوعها؛ ولا ينحصر الأمر كما حاول الكاتب أن يبين ذلك؛ في أقوال ابن القيم ولا ابن تيمية رحمهما الله تعالى رحمة واسعة، ولو اطلع الكاتب المذكور على التراث المالكي فقط بخصوص هذا الموضوع لهاله الأمر؛ ولربما خرج يجأر في الصعدات بما يسميه من منظوره الاستئصالي؛ إقصاء وتطرفا وإرهابا وو…
فخلافا للإمبراطوريات الإمبريالية (الرومية والفارسية) التي كانت إذا احتلت بلدا قتلت أهله ونهبت خيراته؛ وأذلت المخالفين لها في العقيدة؛ وأذاقتهم صنوفا وألوانا من العذاب؛ كان المسلمون الفاتحون يضعون أمام غير المسلم إمكانية العيش في بلد الإسلام آمنا مطمئنا؛ يأمن على نفسه ودينه وماله وولده، مقابل دفع مال ضئيل جدا بالنسبة لما يدفعه المسلم من زكاة ماله.
وقدر الجزية ليس مبلغا كبيرا كما يصور المرجفون المعادون لكل شريعة سماوية؛ بل هو مبلغ يسير لم يكن يتعدى دينارا واحدا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن أخذ من كل حالم منهم دينارا كل سنة، قال معاذ الله رضي الله عنه: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا، أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة (هذه زكاة على المسلمين منهم)، ومن كل حالم دينارا، أو عدله مَعافر (للجزية))، والمعافري: الثياب. رواه أبو داود والترمذي والنسائي؛ صحيح الترمذي 509.
وضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجزية في عهده على الموسرين 48 درهما، وعلى المتوسطين في اليسار 24، وعلى الطبقة الدنيا من الموسرين 12 درهمًا (أحكام أهل الذمة؛ ابن القيم ص:34)، وهي نسبة أقل بكثير من النسبة التي يدفعها المسلم لبيت المال من زكاة ماله (2.5%).
ومُنِحَ الذميون مقابل هذا القدر الضئيل للغاية من المال حقوقا كثيرة أولها: حرية العقيدة، ومنها حماية النفس ماديا ومعنويا، وحماية المال، وحرية العمل، وحق الكفالة من بيت مال المسلمين عند الحاجة، وحرية التنقل، وحرية التعامل بقانون الأحوال الشخصية الخاص بدينهم، وحق الملكية، وغير ذلك من الحقوق مما لا يتسع المجال لذكره. (انظر: الجزية في الإسلام؛ د.راغب السرجاني).
ويجب أن نستحضر أن الإسلام قد وصل إلى هذا الرقي في التشريع والتعامل مع المخالفين للإسلام؛ قبل أكثر من أربعة عشر قرنا من اليوم.
يقول الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي ويليام جيمس ديورانت في كتابه قصة الحضارة 12/131: “لقد كان أهل الذمة، المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زيّ ذي لون خاص، وأداء ضريبة عن كل شخص باختلاف دخله، وتتراوح بين دينارين وأربعة دنانير، ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ، والأرقاء والشيوخ، والعجزة، والعمى الشديد والفقر، وكان الذميون يعفون في نظير ذلك من الخدمة العسكرية.. ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها اثنان ونصف في المائة من الدخل السنوي، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم..”.
وقد أمر الله بأخذ الجزية من المقاتلين دون غيرهم كما نصت الآية على ذلك؛ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} التوبة:29.
قال القرطبي رحمه الله: “قال علماؤنا: الذي دلَّ عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من المقاتلين.. وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني” الجامع لأحكام القرآن 8/72.
وقد كتب عمر إلى أمراء الأجناد: (لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي) أي ناهز الاحتلام. إرواء الغليل:1255.
وأما الأمر بالصغار الوارد في قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، فهو معنى لا يمكن أن يتنافى مع أقوال النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب البر والعدل، وحرمة الظلم والعنت، وهو ما فهمه علماء الإسلام، ففسره الشافعي بأن تجري عليهم أحكام الإسلام، أي العامة منها، فالجزية علامة على خضوع الأمة المغلوبة للخصائص العامة للأمة الغالبة. الجزية في الإسلام؛ د. منقذ السقار.
وفسره التابعي عكرمة مولى ابن عباس بصورة دفع الجزية للمسلمين، فقال: “أن يكونوا جلوسا، والآخذ لها قياما”، إذ لما كانت اليد المعطية على العادة هي العالية، طلب منهم أن يشعروا العاطي للجزية بتفضلهم عليه، لا بفضله عليهم، يقول القرطبي في تفسيره: “فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى، ويد الآخذ عليا”. الجامع لأحكام القرآن (8/115) ، وتفسير الماوردي 2/351-352.
وأحب في هذا المقام أن أكشف تدليس أحمد عصيد على القراء؛ وانتزاعه كلام ابن القيم -من كتابه أحكام أهل الذمة- من سياقه؛ وإخفائه قول ابن القيم في المسألة؛ ليستدل في النهاية على معنى يريده.
قال عصيد: “ما يلزموا به من اللباس وما شابه ذلك من أجل تمييزهم عن المسلمين”، حيث كتب عمر بن الخطاب “إلى الأمصار أن يجزوا نواصيهم، ولا يلبسوا لبسة المسلمين حتى يعرَفوا من بينهم”.
وإلى القراء الفضلاء نص كلام ابن القيم كاملا كما ورد في كتابه أحكام أهل الذمة:
فصل: تغير زيهم عن زي المسلمين
وأما الغيار فلم يلزموا به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما اتبع فيه أمر عمر رضي الله عنه؛ وكان بدء أمره أن خالد بن عرفطة أمير الكوفة جاءت إليه امرأة نصرانية وأسلمت، فذكرت أن زوجها يضربها على النصرانية وأقامت على ذلك بينة. فضربه خالد وحلقه، وفرق بينه وبينها. فشكاه النصراني إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأشخصه وسأله عن ذلك. فقص عليه القصة فقال: الحكم ما حكمت به. وكتب إلى الأمصار أن يجزوا نواصيهم ولا يلبسوا لبسة المسلمين حتى يعرفوا من بينهم.
ففعل عمر رضي الله جاء ردة فعل على الاضطهاد العقدي الذي تشربه النصارى وبدأوا يمارسونه في حق المسلمين، فاحتيج إلى التمييز بينهم وبين غيرهم، فأمر الملهم عمر رضي الله عنه بالتمييز بينهم وبين غيرهم.
ونسأل المفوه عصيد: إن اضطهد مسلم اليوم في بلد علماني نصرانيةً أو يهوديةً؛ وأكرهها على تغيير معتقدها؛ ماذا سيكون جزاؤه؟ وكيف سيتم التعامل معه؟
هل سيكتفى بحلق رأسه؛ أم سيزج به في غياهب السجون ويرحل إلى بلده؟
ولم ينقل عصيد على الإطلاق تتمة كلام الإمام ابن القيم رحمه الله الذي قال: (وهذا كله مما لا دليل عليه ولا هو مقتضى الآية ولا نقل عن رسول الله ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك).
;في الختام أعود وأهتف مرة أخرى في أذن أحمد عصيد وأقول له أن الطريق التي يسير عليها، والمنهجية التي يتعامل بها مع الإسلام عقيدته وشريعته؛ قد سبقه لها جحافل من غير المسلمين والمنافقين من ذوي المعرفة والاطلاع الواسع؛ والدرجة العالية من المكر والدهاء؛ ولم ينالوا -رغم ذلك كله- من هذا الدين شيئا؛ ولايزال إلى اليوم عدد الداخلين في الإسلام -بحمد الله- يتضاعف ويتضاعف ويتضاعف..
فإذا لم يكن لهذا الشخص وازع من دين أو حياء أو احترام للآخر؛ فلتكن له عبرة بالتاريخ الذي أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن مهاجمَ الإسلام يروم مستحيلا ويرجو محالا؛ وهو:
كناطح صخرة يوما ليوهنها — فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *