أحببت أن أبدأ بتوطئة لهذه السطور بشهادة يقول صاحبها في بعض سطورها متحدثا عما أسماه السلفية الدينية، وكيف أنها: “ترفض التقليد وتنادي بالرجوع إلى الأصول، إنّ رفض التقليد يكتسي هنا معنى خاصا مجددا؛ إنه إلغاء التراث المعرفي والمنهجي والمفهومي المنحدر من عصر الانحطاط، والعمل على بناء فهم جديد للدين عقيدة وشريعة، انطلاقا من الأصول مباشرة، وصولا إلى تحيينه، أي جعله معاصرا لنا، نحن أبناء القرن العشرين (..)، إنّ الدعوة السلفية إذن دعوة إلى الأصالة، إلى استعادة الجذور والحفاظ على الهوية” انتهى كلام صاحب الشهادة، وهو للإشارة ليس تيميا، ولا قيميا، وليس رجعيا ولا سلفيا، وليس صناعة غاز في إشارة نابزة للشيخ الوالد ابن الباز، ولا ريع بنزين في إشارة نابزة للشيخ العلامة ابن العثيمين، إنما هو رائد من رواد المدرسة الحداثية العقلانية، وأحد أساطينها الجهابدة، إنه الدكتور محمد عابد الجابري.
والحقيقة أن سوق هذه الشهادة يفرضه العمد لا العفوية، إذ هي خرجت من مشكاة الحياد والمناوءة، والعمد في هذا المقام نبغي من خلاله مواجهة المتعالمين الجدد الذين سلطوا سهام ألسنتهم الحداد من داخل قلعة الدين وحصونه، إلى مشروع الترميم وموضوع الهيكلة والتجديد، سلطّوها على هذا العود المحمود باعتبار أنه وجه من أوجه الاستبداد الماضوي، والاستعباد الرجعي، الذي يطارد بجفوة كل تجديد واجتهاد، وتنهال التهم الجاهزة التي فصلت على مقاس فضفاض، غايته تكفين هذا المشروع النفيس، وتشييع جيله بإغراب وتغريب، واتهام استهلاله الخلفي بالقهقرة التي تستجير بالماضي أو الوراء، كملجأ للانكماش والسلبية في أبشع صورها.
ولعل هذا العمد يعطينا هامشا من التأشير الإيجابي، الذي يُشَرعِنُ لكل غيور على هذا العود -وحنين الرماد إلى بؤرة الموقد الأول-، التساؤل باستغراب عن البواعث الكامنة وراء أكمة التحامل الحائف على هذا المشروع الإصلاحي الرفيع، ليس من خصومه الطبيعيين من أهل المروق والإلحاد، بل من المنتسبين إلى القلعة الخضراء أو الخطر الأخضر كما يطيب للإمبريالية العالمية وصفه؟
إنه لمن الشناعة أن يأتي الاتهام، وينتصب الخصم، وتكون المناوءة من الذين ديدنهم: قال الله، قال رسوله، ضدّ هذا المنهج الذي يروم وصف المجرى من رأس العين، ومنبع المعين، بعدما تشعب السبيل إلى سبل، وضاع الأصيل مع منعرجات الابتداع ومزالق الأخلاط الإضافية..
إن نظرة من على الفوق إلى ذلك الكل الأصيل بمنظار الواقع المعاصر، يجعل استغرابنا من هذه المواجهة يتلاشى تركيزه، ويتقعد حياده، إذ أن ذلك الكل صار اليوم خليطا وبضاعة مزجاة، يشوبها التطفيف والخسران، وتعرض باسم الفلاح والرجحان، فالخوارج التكفيريون يشرعنون لمروقهم بأدلة من الكتاب والسنة، والمرجئون يحتجون بقوله في الحديث صلى الله عليه وسلم: “من قال لا إله إلا الله مخلصا فهو في الجنة، وإن زنى وسرق”، فيردّ المخالفون بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن”، بينما يدور القدري مع قول الله تعالى: “فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا”، وأهل التفويض قد تركوا العمل لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: “اعملوا فكل ميسر لما خلق له”، والروافض المجوس قد كفّروا الأصحاب بحديث ورود الحوض..
وهكذا، وعلى اختلاف الملة والنحلة التي يتعفف القلم عن الإنسراب مع أنبازها وأسماء فسوقها؛ أسماء تأبى إلا أن تسمي فصامها النكد إسلاما على الكتاب والسنة، وفي ظل هذا الواقع المريض والحالة العقدية الموبوءة، يمكن أن نجمل القول في كون السلفية هي: منهج يقوم مشروعه على أساس تصفية هذا الواقع وهذه الحالة من الشوائب والعلائق الدخيلة، التي كدرت صفاء رأس العين، ومن تم تقديم ذلك التراث في قالب تحييني لجيل اللواحق في محاولة جريئة وحثيثة تبغي تربية هذا الجيل الخلفي، بما عاشه الجيل السلفي الأول، رعيل القرآن من الصحابة وتابعيهم من القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى إنما كلامه محض وحي يوحى.
فالسلفية إذن هي ثورة تجديد وتصويب لحاضر قد حاد عن جادة سبيل الله ورسوله، وانساق مع فكر التواكل الخرافي والتبعية العشواء، التي دجلت الدين باسم الإسلام التاريخي، ودجنت المنتسبين لحضيرته بالعنعنات الكاذبة على الله، والمفترية على رسوله صلى الله عليه وسلم من خلال الموضوعات والخوارم الضعيفة.
فهي إذن، عود إلى الماضي ورجوع إلى تراث السلف بغية نفخ روح المعاصرة في كوامنه، واستثمار ما فيها من الخيرية الكفيلة بتحقيق نجدة محينة، ومناعة مصوبة ضد كل أشكال التخلف، وتمظهرات الإنتكاس الأخلاقي، وهذا هو عين ما جاء في شهادة محمد عابد الجابري رحمه الله حين قال: “إن الدعوة السلفية إذن دعوة إلى الأصالة، إلى استعادة الجذور والحفاظ على الهوية”، تلك الهوية التي تداعت على قصعتها النحل والنعرات، مع كثرة غثائية، وقلة تعاني ما تعانيه من المحاصرة الفكرية والتهميش العقائدي، والرجم غيبا بالتهم والمغالطات..
وهكذا ترمى السلفية اليوم بالرجعية والجمود واللاعقلانية والعنف والتطرف، مع أن الواقع ومصادر سيرورتها التاريخية يشهدان على أن عملية إرادة مَسلفة الحاضر، تمت وتتم عبر الرجوع إلى الماضي المشرق من تاريخ أمتنا الإسلامية، من أجل خلق جسر تواصل بين حاضرنا وماضينا، جسرٌ هو في الحقيقة قراءة محاورة لبيبة للمكونات القوية، كعنصر العدل في الحاكمية مثلا، الذي أسهم في تأسيس المجتمع النبوي الفاضل، ومن بعده مجتمع الخلافة الراشدة، الذي بسط نفوذه التوحيدي على جغرافية لا تأفل شمسها، ولعل هذا ما يتوق له كل عقل تقدمي ومجهود حضاري منشود.
وعليه، فنعت عملية احتضان تلك المكونات القوية ومحاولة التمسك بمسالكها الفاضلة التي كانت تقوت بها دولة الإسلام في غربتها الأولى بالرجعية والجمود واللاعقلانية، هي ملاسنة ونبز يكون في مواجهة مباشرة مع منهج سيد الخلق، بل هو نوع من مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم، واتباع لغير سبيل المؤمنين الذي يليه الجزاء الوفاق، جزاء تولية السبل في هذه الدار، وتصلية الجحيم في تلك الدار.
إننا وحينما يقول الشيعي والقبوري والمرجئي والقدري والقدياني والدرزي: إسلامنا على الكتاب والسنة -زعما وفرية-، نقول تميزا: إسلامنا على الكتاب والسنة مع ضميمة فهم سلف الأمة، ذلك الجيل الفريد الذي تربى في كنف النبوة، وتخرّج من مدرسة سيد المعلمين، أولئك القوم الذين قال في حقهم أحد أئمة القراءة من التابعين: “إنا أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخر حتى يعلموا ما فيهن، فكنا نتعلم القرآن والعمل به..”.
فهذه شهادة أردفناها شهادة التوطئة تبرئة لهذا المنهج العظيم، سبيل الله المستقيم، الذي توعده إبليس اللعين بالإقعاد المشين، فانصاعت له النفوس المريضة، ضحية مارد الحسد، وسارد الحقد، عُمار أسواق البيع المغبون، حيث إيثار السراب الفاني الخسيس على الكنز الباقي النفيس، نسأل الله العفو والمعافاة.