الناس من حولنا يتوحدون ويتكتلون ويتراصون، يحاولون المرة والمرات من أجل الوصول إلى سقف الوحدة المطلوبة لا المتاحة، فها هي أوربا ومن عهد نابليون في القرن التاسع عشر ومرورا بأربعينات القرن العشرين مع تجربة هتلر التي تميزت بقصر عمرها ومحدودية تأثيرها، إذ أصغى لعدوانيته وآثر استعمال الآلة الحربية في مسعى نوال الوحدة المنشودة.
ولم يصغ إلى المفكر السلمي “فيكتور هوجو” الذي نادى عام 1851م ورفع شعار التوحيد السلمي من خلال التعاون والمساواة في العضوية، والغريب العجيب أن تزداد شدة النزوع إلى التوحد والتوحيد بعد كوارث الحرب العالمية الأولى والثانية مدفوعة بالرغبة الجامحة إلى إعادة بناء أوروبا، وهو ما سيتوج بتشكيل الجماعة الأوربية للفحم والصلب عام 1951م على يد كل من ألمانيا الغربية وفرنسا وإيطاليا ودول البينيلوكس “بلجيكا وهولندا وليكسمبورغ” وهي أول وحدة جمركية عرفت باسم المؤسسة الاقتصادية الأوربية.
ويتوالى الجهد وتترادف الاتفاقيات وترفع الشعارات التي تغلب المصلحة الإقليمية على المصالح القطرية الضيقة، ليسجل تاريخ أوربا وحدته الكبرى إذ ستقفز الكيانات المتصارعة التي سجل صراعها رقما ضاربا في ركام القتلى والثكالى والمنكوبين بعد الحربين العالميتين المدمرتين على كل خلافاتها اللغوية والعرقية والدينية والجغرافية والسياسية والمصالح النخبوية، محققة وحدة وكتلة متراصة توجتها بسك عملة موحدة، ومفوضية أوربية، وبرلمان أوربيّ، ومجلس أوربيّ موحدا، وحلف عسكريّ قويّ موضوع تحت إمرة وتصرف المصالح العليا للكيان الجديد.
وبعيدا عن تجربة أوربا المميزة لا يزال الناس من حولنا يتوحدون ويتكتلون ويتراصون، فها هي دول أمريكا تتوحد في صيغة تكامل اقتصادي يضم مجموعة من الدول غير المتجانسة تاريخيا وثقافيا وجغرافيا، يتم بموجب هذه الصيغة خلق منطقة تجارة حرة تتميز باتحاد جمركي واندماج اقتصادي وسياسي، يدور في فلك سوق مشتركة تستوعب مظاهر هذا التكامل الإقليمي، نذكر منها تكتل دول أمريكا الشمالية الذي يعرف بتكتل “النافتا” وتكتل دول أمريكا الجنوبية الذي يعرف بتكتل “كوميسا”.
عجيب أن تحقق أوروبا ومعها دول أمريكا هذا التوحد والتراص وهي البضاعة المزجاة في اللغة والدين والعرق والروافد التاريخية والإنسانية، وأن تذوب كل الخلافات والصراعات الدموية الموثقة بالصوت والصورة في حوجلة المصالح الاستراتيجية التي جاوزت الفردانية والقطرية الضيقة إلى فضاء التغول الاقتصادي والتوسع السياسي والعسكري الكاسح.
وإذا كان هذا هو الأصل والقاعدة التي تدور على رحاها وبمحركها عجلة كدح الآخر وصوب حركة انتقاله التاريخي والحضاري، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة لأمة خصها الله بالوسط والخيرية وبعث فيها رسولا وأنزل عليها كتابا وجعل لها عروة وثقى ودينا قيما ولسانا عربيا مبينا، وأمر بواجب الاعتصام بحبله تحقيقا لمقام الجمع ومنزلة الكل، منزلة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، ورهن بالتلازم تحقيق مقام العبودية بتحقيق مقام الأمة الواحدة وبسط لها بعد هذا التلازم تحقيقا لا تعليقا منقبة التمكين وقيادة الناس وإخراجهم من ظلمات عبادة ما دون الله إلى نور التوحيد وفضيلة توحيد الكلمة.
وحتى في أوج وذروة الخلاف والاختلاف حذر الإسلام العظيم من الخروج على جماعة المسلمين ونزع يد الطاعة، وأمر بالرد والاحتكام إلى الله ورسوله، وأوصى بتجنب نزغة الفجور في العداوة، واجتناب مساوئ الفحش في الخصومة التي تحمل المسلم على أن يوجه سلاحه إلى أخيه المسلم.
حيث نص نبينا عليه الصلاة والسلام على أن القاتل والمقتول في النار، فأين هذا الحس وذلك الشعور الذي كان يرد الكل إلى وجهة الانتساب إلى شيء واحد تنضوي تحته في تجانس ومشاكلة وحدات المصير والماضي والحاضر والأخوة في الدين واللسان والقربى والجوار، أين هذا وذلك ونحن نرى الأمة وقد أصيبت بداء الشعوبية، وفتنة القومية، ومكيدة الخصوصية، وهي ولا شك أدواء يرى كل منصف أثرها وكيف أنها شرذمت الأمة إلى أوزاع وأطياف وفئام وألوان وفرق وأصناف تحسبهم جميعا ولكن قلوبهم شتى.
أطياف وأوزاع مهمتها النفخ في كل نعرة وتأجيج نيران الفرقة بدعوى أن ساعيها ساع للأمة في عاقبة الحسنى، ومضمر للكثرة والأقلية على المقصد الأسنى، ومنطو لمستقبل وجودهم على الخير الأسمى، بينما وراء الأكمة العالية ذئب يأكل من الغنم القاصية، وإلا فالشعوبية والقومية والخصوصية هي أوراق إن صح قصد المدافعة بها لا ترفع في مسلكها الضيق إلا في وجه هذا الآخر، وفي سياق المقاطعة لا المداهنة والمفاضلة لا المعادلة والمنازعة لا المنازلة والممانعة لا الموافقة والمدافعة لا الموادعة.
أما أن ينقلب وجه الاستخدام وصوب الهجوم والمدافعة فترفع هذه الأوراق من بعض الأمة في وجه كل الأمة ليحصل التنازع وتذهب الريح وتتسع الشقة إلى الحد الذي يتهم معه الفرع الأصل بالتهريب الديني والغلو الذي يهدد الأمن الروحي، ويقدح في خصوصية الاجتزاء في مقابل الاستيعاب الديني، ويعارض لأطروحة الوحدة في إطار التنوع والتنافر والتباغض فالتناحر.
فإن هذا الانقلاب وما توارى خلفه إلى حين لا يجب أن يقرأ إلا في سياق فتح جبهة قتال جديد، جبهة اقتحمها مستعمر الأمس بتواطؤ مع حملة فكر التغريب من بني الجلدة مع اختلاف في أدوات الاقتحام وأسلحة المغالبة بين اقتحام اليوم وسالفه في الأمس، بينما لا خلاف على مستوى المقصد الذي لا يتنازل عن عتبة ضرب مقومات توحيد العروة وتوحيد الكلمة.
وعلى هذا النحو وفي هذا الاتجاه يجب أن تقرأ شنشنة بعض التوصيات كتلك التي جادت علينا بها في إطار المقاربة الإصلاحية للتعليم عقلية التربيض والرابي والمربي والرائب، ونعني بها توصية “عيوش”، ذلك أن المناداة بتحيين مدخول إلى تبني وترسيم الدارجة واعتبارها اللغة الأم هو لا يخرج باعتبارات عديدة على كونه يصب في رصيد الخصوصية وتكريس مفهوم القطرية على حساب الاختلاس من رصيد مفهوم الأمة، وكذا استدبار مشروع الوحدة على أساس الدين واللغة معا ثم المصير المشترك، ومن تم الهرولة في مسعى التشبث بذيل الآخر حبا وفعلا وبغضا وتركا.
ولذلك فالمنصف لا يمكنه أن يرى في مثل هذه التوصية انفكاكا عن باقي التوصيات العاملة على نفس الهدف مع فارق في درجة القبول والمسوغ والاعتراض، والتي من أكبرها رفع شعار المحافظة على الأمن الروحي للمغاربة من تهديد الوافد المشرقي، وتبني مشروع الخصوصية الدينية في مقاربتها الثلاثية، بل لا يرى إذا ما انضاف إلى إنصافه عمق نظرته وسلامة فطرته وحسن تجرده.
أي فرق أو فارق بين السيد عيوش وكل كائن ديني سكت عن ربا النسيئة لمؤسسة زاكورة، وتأبط مشروع الخصوصية في مضمار سباقه ومجال لحاقه الذي هو محض تقديم بين يدي الله ورسوله، وشذ عن أوامره من جنس ما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}.