ضوابط شرعية للحرية الفردية عبد القادر دغوتي

الموافقة لمقاصد الشريعة الإسلامية
مقاصد الشريعة هي «الغايات المستهدفة والنتائج والفوائد المرجوة من وضع الشريعة جملة ومن وضع أحكامها تفصيلا. أو هي الغايات التي وُضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد»3.
وقد قسم العلماءُ المصالح المقصودة للشارع الحكيم إلى مراتب، أعلاها: المصالح الضرورية. وهي المصالح الأساسية التي لا تستقيم الحياة بدونها، بحيث إذا فُقدت حل الشقاء في المعاش والمعاد.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: «فأما الضرورية فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فُقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة. وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين»4.
وأصول المصالح الضرورية خمس، يسميها العلماء بالضروريات الخمس أو الكليات الخمس، وهي مُرتبة حسب الأولوية والأهمية كما يلي: حفظ الدين، حفظ النفس حفظ العرض حفظ العقل وحفظ المال. ومنهم من رتب حفظ العقل قبل حفظ العرض. وهذه الكليات الخمس ترجع إليها مختلف المصالح الأخرى الفرعية.
فأي فعل يعود بالنقض على واحدة من هذه الكليات؛ فهو مفسدة مهما حاول المفسدون المبطلون تسويغها وترويجها بأسماء وعناوين شتى ما أنزل الله بها من سلطان، قال ابن القيم رحمه الله: «فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه…»5.
وقد أحاط الله تعالى هذه الكليات بسياج من التشريعات الزجرية والردعية، قصد حفظها وصونها من عبث العابثين واعتداء المعتدين. فشرع الحدود والقصاص.
فأما الحدود فهي عقوبات محددة ومقدرة شرعا، تُنزَل بكل من تجرأ على المساس بواحدة من تلك الكليات: فشرع حد الردة لحفظ الدين، وحد الحرابة لحفظ النفس والمال، وحدي الزنى والقذف لحفظ العرض، وحد الخمر لحفظ العقل، وحد السرق لحفظ المال.
وأما القصاص، فهي العقوبة بالمثل، كما قال تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أنَ النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاُذن بالاُذن والسنَ وبالسَن والجرُوح قِصاص… } (المائدة47).
فالحاصل أن أي تصريف للحرية أو ممارسة سلوك باسمها ينقض مقاصد الشارع الحكيم سبحانه؛ فإنما هو مفسدة ظاهرة مُحققة يُوجب الشرع الحكيم والعقل السليم دفعها. فلا مجال للفساد والإفساد في الاسلام باسم الحرية.

الموافقة للفطرة السليمة
إن الحرية الفردية المعتبرة في ميزان الشرع الحكيم، هي ما كانت موافقة ومسايرة للفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، كما قال جل جلاله: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله. ذلك الدين القيَم} (الروم:30).
والفطرة كما يعرفها الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله، هي الخِلقة، أي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق. ففطرة الإنسان هي ما فُطِر -أي خُلِق- عليه الانسان ظاهرا وباطنا، أي جسدا وعقلا. فمشيُ الانسان برجليه فطرة جسدية، فمحاولة أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة، واستنتاج المسببات من مقدماتها فطرة عقلية، فاستنتاج الشيء من غير سببه خلاف الفطرة العقلية (…)
إلى أن قال: «وقد استبان أن الفطرة النفسية للإنسان هي الحالة التي خلق الله عليها عقل النوع الانساني سالما من الاختلاط بالرعونات والعادات الفاسدة فهي المراد من قوله تعالى {فطرة الله التي فطر الناس عليها}، وهي صالحة لصدور الفضائل عنها، كما شهد به قوله تعالى: {لقد خلقتا الانسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} التين 4ــ6. فلا شك أن المراد بالتقويم في الآية تقويم العقل الذي هو مصدر العقائد الحقة والأعمال الصالحة، وأن المراد برده أسفل سافلين انتقال الناس إلى اكتساب الرذائل بالعقائد الباطلة والأعمال الذميمة…»6.
وقد عدَ الشيخُ رحمه الله حفظ الفطرة الإنسانية من أي تبديل أو خرق أو اختلال من المقاصد العالية للشريعة الإسلامية، قال: «ونحن إذا أجدنا النظر في المقصد العام من التشريع الذي سيأتي بحثه، نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر من خرقها واختلالها. ولعل ما أفضى إلى خرق عظيم فيها يُعدَ في الشرع محذورا وممنوعا، وما أفضى إلى حفظ كيانها يُعد واجبا، وما كان دون ذلك في الأمرين فهو منهي عنه أو مطلوب في الجملة، وما لا يمسَها مباح»7.
وبعد، أليست الحرية الفردية التي يدعو إليها العلمانييون تخالف في كثير من مظاهرها الفطرة الانسانية السليمة؟
أليست اعتداء عليها وخرقا لها وانحدارا بالإنسانية إلى أسفل سافلين؟
بلى، فإن ما يدعو إليه هؤلاء ليست حرية ولا يخدم سعادة الإنسان مهما رفعوا عقيرتهم بذلك، وإنما هو مسخ وتخريب للإنسان باسم حرية الانسان، وإفساد باسم الإصلاح {وإذا قيل لهم لا تُفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم همُ المفسدون ولكن لا يشعرون} (البقرة10ـ11).
فقد استبدلوا الذي هو أدنى وأخس بالذي هو خير وأجلَ. استبدلوا أهواءهم وجهلهم، بشرع الخالق الحكيم اللطيف الخبير الذي له الخلق والأمر.
ــــــــــــــــــــــــ
1 ــ الفكر المقاصدي: فوائده وقواعده، أحمد الريسوني، ص13 ـ 14.
2 ــ الموافقات في أصول الشريعة، 2/7.
3 ــ إعلام الموقعين عن رب العالمين، مج2 ـ ج3 ــ ص14،
4 ــ مقاصد الشريعة. الشيخ الطاهر بن عاشور، تح محمد الطاهر الميساوي، ص261 ــ264.
5 ــ نفسه ص266.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *