انتشرت في بعض الأوساط العلمية والدعوية فكرة مفادها أنه يمكن السكوت عن ارتكاب الشرك الأكبر مؤقتا حفاظا على وحدة المجتمع وتماسكه، باعتبار أن مصلحة وحدة المجتمع تُقدم على مصلحة حفظ الدين التي يمكن تداركها بعد حين، ويعللون لصحة ما ذهبوا إليه بقصة هارون عليه السلام مع عبّاد العجل.
لا شك أن فكرة السكوت عن الشرك الأكبر ولو بقيد التأقيت فكرة خطيرة تخالف الأدلة الشرعية وتصادم القواعد العلمية المقررة، وتوشي بخلل عريض في فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد؛ فليس هناك مصلحة أعلى من مصلحة حفظ الدين، وفي مراتب حفظ الدين ليس هناك مصلحة أعلى من مصلحة حفظ جناب التوحيد ومنابذة الشرك، وفي الحديث المتفق على صحته يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ -أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»، وجاء الحديث في سنن الترمذي بلفظ: «الإيمان بضع وسبعون بابا، فأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرفعها قول: لا إله إلا الله»، فأرفع المصالح على الإطلاق مصلحة المحافظة على صفاء التوحيد وظهوره، وأشد المفاسد على الإطلاق مفسدة الوقوع في الشرك الأكبر وعبادة غير الله والسكوت عن ذلك.
هذا، وتتجسد خطورة الفكرة وانحرافها في مقامين؛
الأول منهما: أنها مصادمة لأدلة كثيرة ومتنوعة لا تكاد تحصى ترفع من شأن التوحيد وتقرر أن مرتبته في الإسلام لا يعلى عليها.
والمقام الثاني: نسبة السكوت عن ارتكاب الشرك الأكبر لنبي كريم مرسل، وهي نسبة باطلة تخالف صريح القرآن الكريم.
ولما كان معتمد تلك الأوساط العلمية والدعوية فيما ذهبوا إليه ونظّروا له قصة هارون عليه السلام فإننا سنقف عندها بما يدفع النسبة المدعية، ونبين خطأها، وما بني على باطل فهو باطل.
وقبل هذا وذاك فإنه يحسن بي أن أمهد للغرض المنشود بمقدمة تتعلق بمنهاج الشرع في هديه مع الضروريات الخمس.
- منهاج الشرع مع الضروريات الخمس
اتفقت الأمة ـ بل سائر الملل ـ حسب ما قرره أهل العلم قاطبة على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل. وعند التعارض فيما بين هذه الضروريات الخمس وتعذر الجمع بينها يقدم ما هو أعلى رتبة من الآخر؛ فيقدم حفظ الدين على حفظ النفس، ويقدم حفظ النفس على غيره من المقاصد الضرورية الأخرى التالية، وهكذا.
والترتيب بهذا الشكل بين هذه الكليات الخمس محل اتفاق بين معظم العلماء ولم يشذ عن هذا الاتفاق إلا القلة القليلة منهم، إلى درجة أن أستاذ المقاصد أبا إسحاق الشاطبي لم يعرج على قول المخالف، وقرر الترتيب المذكور آنفا وأمضاه في كتابه الموافقات.
ومن القائلين بالترتيب الذي مر بنا سيف الدين الآمدي في الإحكام (4/ 276) ونص على أنه : “كما أن مقصود الدين مقدم على غيره من مقاصد الضروريات، فكذلك ما يتعلق به من مقصود النفس يكون مقدما على غيره من المقاصد الضرورية”؛ أي أن مقصد النفس يلي مقصد الدين في الترتيب.
وقد جاء في مراقي السعود ممزوجا بشرحه نثر الورود ما يقرر هذه المقاصد الضرورية مع ترتيبها:
” ثمَّ المناسِبُ عنيتُ الحكمه … منه ضرُورِيٌّ وجا تتمَّه
بينهما ما ينتمي للحاجي … وقدِّم القويَّ في الرَّواج
دِينٌ فَنفْسٌ ثم عَقْلٌ نَسَبُ … مالٌ إلى ضرورةٍ تنتسبُ
ورتِّبَنْ ولتعطفَنْ مُساويًا … عِرْضًا على المالِ تكُنْ موافيًا
فحفظها حتمٌ على الإنسانِ … في كلِّ شِرْعةٍ من الأديانِ
وقوله: (ورتبن) يعني أنه عند التعارض يقدم حفظ الدين ثم النفس ثم العقل ثم النسب، و(لتعطفن مساويا).. إلخ يعني أن حفظ المال وحفظ العرض في مرتبة واحدة هي آخر المراتب المذكورة، هذا مراد المؤلف”. اهـ
غير أنه ينبغي أن نفرق بين حفظ أصل الشيء وبين حفظ فروعه، فالأصل دوما يقدم على فرعه عند التعارض، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يقدم كذلك الأصل الكلي على فرع غيره عند التعارض وإن كان ذلك الفرع ينتمي إلى أصل أعلى؛ فمثلا الدين له أصول وله فروع، فالصلاة المكتوبة أصل وأداؤها جماعة في المسجد فرع، فإذا تعارض أداء الصلاة في المسجد مع حفظ النفس فإننا نقدم حفظ النفس على أداء الصلاة المكتوبة في المسجد، والتعارض الذي وقع هنا ليس بين أصلين؛ أصل الدين وحفظ النفس، وإنما وقع بين فرع من فروع الدين وبين أصل كلي الذي في هذا المثال هو حفظ النفس، فيقدم حفظ النفس عليه. يقول سيف الدين الآمدي مبينا حكمة الشارع من التخفيف عن المسافر والمريض في الصيام والصلاة: “فليس تقديما لمقصود النفس على مقصود أصل الدين بل على فروعه، وفروع أصل غير أصل الشيء، ثم وإن كان فمشقة الركعتين في السفر تقوم مقام مشقة الأربع في الحضر، وكذلك صلاة المريض قاعدا بالنسبة إلى صلاته قائما وهو صحيح، فالمقصود لا يختلف”.
وبناء عليه، فقد أخطأ بعض أهل العلم من المعاصرين حينما كثر الحديث عن حكم صلاة الجماعة في المسجد في ظل انتشار وباء كورنا والخوف من انتقال العدوى، فكانوا يقولون بوجوب ترك صلاة الجماعة في المساجد حفاظا على النفس، ويستدلون لما ذهبوا إليه على أن حفظ النفس مقدم على حفظ الدين بإطلاق.
وإذا كان الحكم الذي توصل إليه هؤلاء صحيحا باعتبار محله، فإن إطلاق تلك العبارة كان خطأ، لأن حفظ الدين كما سبق تقريره مقدم على حفظ النفس، وعليه اتفاق علماء الأصول. ويغلب الظن أن المستشهدين بتلك العبارة لا يفرقون بين أصل الشي وبين فروعه أو أنهم غفلوا عن هذا الفرق، فالصلاة أصل وأداؤها في المسجد فرع والتنازل على فرع الأصل لأسباب مشروعة ليس تنازلا على الأصل. فالتعارض في نازلة ترك الصلاة في المساجد بسبب وباء كورونا لم يكن بين حفظ أصل الدين وبين حفظ أصل النفس، بل وقع التعارض بين حفظ أصل النفس وبين حفظ فرع الدين، أما حفظ أصل الدين ـ والمراد به هنا الصلاة ـ لم يتعارض مع حفظ النفس في تلك النازلة؛ لأنه يمكن الجمع بين المقصدين بأداء الصلاة في غير المساجد.