من بين الأسباب التي دفعتني لحبّ الأدب والانصهار في بوتقته مقالةٌ في كتاب النّظرات للأديب البارع مصطفى لطفي المنفلوطي عنوانها (دمعة على الإسلام)..إذ كنت قبل ذلك أدرسُ كتبَ الفقه والعقيدة الإسلامية المبنية على الكتاب والسنة.. فوجدتُ هذه المقالةَ الباذخةَ التي تُنكر على عبّاد القبور عبادتهم لها من دون الله، وغلوهم في المشايخ والأولياء، وتقديم القَرَابين والنّذور والغالي والنّفيس لهذه العظام النخرة التي يستغلّها الذين لا يرقبون في الأمّيين السّذّج من النّاس رحمة ولا عطفًا..
كتبَها بأسلوب رائق سَلِسٍ أعجبني وصادف أهواءً في أعماقي، فأعدت قراءَتها مرّات حتّى كدت أحفظها كما هي عادتي مع النّصوص التي تروق لي.. فقلت في نفسي حينها إن كانَ هذا هو الأدب وأهله فإنّه شيء جميل حقّا يبعث على الارتياح وعلى الاطمئنان كلّ الاطمئنان للارتواء من معينه الصّافي، فصرت من ذلك الحين أقتني كلّ كتاب أجده في طريقي له صلة بالأدب، ونسب بالفكر، أقرأ كلّ ما تصل إليه يدي وأنا متسلّح بما منّ الله به عليّ قبل ذلك من فهم لأمور عقيدتي وديني..
صرت أقرأ بعين ناقدة، بعين تخوّلني الحكم على الشيء بمنظور إسلامي.. ورغم ما واجهت من نتوءات في طريقي وأنا أطالع بعض كتب المنحرفين الذين ينتسبون للأدب، فإنّني بحمد الله لم أتأثّر بما يلقون من شبهات وأفكار خطيرة من خلال كلامهم النّاعم، وأسلوبهم الخلاّب، فأيقنتُ أنّ الله تعالى قد أحسن إليّ، إذ لم يجعلني أتوجّه لعالم الأدب مباشرة وأنا أجهلُ من الحُمُر الأهلية. ولو وكلني إلى نفسي هذه الأمّارة بالسوء لكنت الآن أسبّح بحمد الزّنادقة والكافرين بكرة وأصيلاً بدعوى الإبداع وحرّية الفكر والتّعبير، كما هو حال الكثيرين من أبناء جلدتنا الذين ترهبهم الأسماء الرّنانة، التي تملأ السّاحة الأدبية فسقًا وفجورًا، واستهزاءً وسخرية بديننا الحنيف. ..
إذًا كان المنفلوطي من بين الأسباب التي حبّبت إليّ هذا العالم الجميل الذي يُقال له الأدب، وعشقت كتاباته كلّها، وقرأتها مرارًا دونَ ملل أو ضجر، ولا أنكر أنّني تأثّرت بأسلوبه الإنشائي في مرحلة ما، ولم أتخلّص منه وأكوّن لنفسي أسلوبًا خاصّا بي إلا بشقّ الأنفس. وذلك عن طريق كثرة القراءة لأساليب مختلفة لكبار الكتّاب، كما فعل توفيقُ الحكيم حيث ذكرَ عن نفسه في كتابه «زهرة العمر» أنه قرأ رُكامًا من الكتب المختلفة من أجل البحث عن أسلوب يخصّه. وقد قال المنفلوطيُّ نفسه في هذا الصّدد في نظراته الجزء الأول:
«يسألني كثيرٌ من النَّاس كما يسألون غيري من الكُتَّاب: كيف أكتبُ رسائلي؟ كأنَّما يريدون أن يعرفوا الطُّرقَ التي أسلكُها إليها فيسلكوها معي، وخيرٌ لهم ألا يفعلوا؛ فإنِّي لا أحبُّ لهم ولا لأحدٍ من الشَّادين في الأدبِ أن يكونوا مُقيَّدين في الكتابةِ بطريقتي أو طريقة أحدٍ من الكُتَّاب غيري، وليعلموا -إن كانوا يعتقدون لي شيئًا من الفضلِ في هذا الأمر- أنِّي ما استطعتُ أن أكتبَ لهم تلك الرسائلَ بهذا الأسلوب الذي يزعمون أنَّهم يعرفون لي الفضلَ فيه، إلا لأنِّي استطعتُ أن أنفلتَ من قيود التمثُّل والاحتذاء، وما نفعني في ذلك شيءٌ ما نفعني ضعفُ ذاكرتي والْتواؤها عليَّ، وعجزها عن أن تمسكَ إلا قليلاً من المقروءاتِ التي كانت تمرُّ بي، فقد كنتُ أقرأ من منثورِ القول ومنظومِه ما شاء الله أن أقرأ، ثم لا ألبثُ أن أنساه، فلا يبقى منه في ذاكرتي إلا جَمال آثارِه، وروعة حسنه، ورنَّة الطَّرب به».
ولستُ وحدي في هذا الانجذاب نحو المنفلوطي، فقد استفاد منه الكثير من النّاس من الذين يعشقون الكتابةَ النثرية والمقالاتِ الاجتماعيةَ الهادفةَ، والأدبية الرّفيعة، ولكن للأسف لم يسلم هذا الشّيخ الأديب من ألسنة من يتسمّون بالنّقاد كغيره من الأدباء والعلماء الذين لهم قدمُ صدق في هذه الأمّة، وقد قرأت ما كتبه عنه العقّاد، والمازني، وطه حسين، والزّيات، وحتّى الشيخ علي الطّنطاوي الذي استفاد منه كثيرًا وتأثّر بأسلوبه ردحًا من الزّمان كما أخبر عن نفسه في ذكرياته لم يسلم من نقده وقلمه. كلّ هؤلاء تطاولوا على المنفلوطي رحمه الله الذي كان أمّة وحده في الكتابة النثرية في ذلك الوقت حيثُ الجفافُ والجمودُ والرّكود . وقد أحسن الإحسانَ كلّه عندما قال ردّا على الجاحدين والنّقاد الجرّاحين في كتابه النّظرات 1/33:
«مَا كنتُ أكتبُ للناس لأعجبهم، بل لأنفعَهم، ولا لأسمع منهم: أنت أحسنتَ، بل لأجدَ في نفوسهم أثراً مما كتبت، وللناس كما قلت في بعض رسائلي، خاصة وعامة، أما خاصتهم فلا شأن لي معهم، ولا علاقة لي بهم ولا دخل لكلمة من كلماتي في شأنٍ من شوؤنهم فلا أفرح برضاهم ولا أجزع لسخطهم، لأني لم أكتب لهم، ولم أتحدث معهم، ولم أشهدهم أمري، ولم أحضرهم عملي، بل أنا أتجنب جهد المستطاع أن أستمع منهم شيئاً مما يعلق بي من خيرٍ أو شرٍّ، لأني راضٍ عن فطرتي وسجيتي في اللغة التي أكتب بها، فلا أحب أن يكدرها علي مكدر، وعن آرائي ومذاهبي التي أودعها رسائلي فلا أحب أن يشككني فيها مشكك، ولم يهبني الله من قوة الفراسة ما أستطيع به أن أميز بين مخلصهم ومشوبهم، فأصغي إلى الأول لأستفيد علمه، وأعرض عن الثاني لأتقي غشه، فأنا أسير بينهم مسيرَ رجل بدأ يقطع مرحلةً لا بد له أن يفرغ منها في ساعةٍ معينة.
ثم علِمَ أن على يمين الطريق التي يسلكها روضةً تعتنقُ أغصانها، وتشتجر أفنانها، وأن على يساره غاباً تزأر أسوده وتعوي ذئابه وتفح أفاعيه وصلاله، فمضى قدما لا يتلفت يمنةً مخافةَ أن يلهو عن غايته بشهوات سمعه وبصره، ولا يسرةً مخافة أن يُهيِّجَ بنظراته فضول تلك السبع المقعية، والصلال الناشرة، فتعترض طريقه.
وأما عامتهم، فهم بين ذكي قد وهبه الله من سلامة الفطرة، وصفاء القلب، وسلاسة الوجدان، ما يعده لاستماع القول واتباع أحسنه، فأنا أحمد الله في أمره، وضعيفٍ قد حيل بينه وبين نفسه، فهو لا يرضى إلا عما يعجبه، ولا يسمع إلا ما يطربه، فأكِلُ أمره إلى الله تعالى، واستلهمه صواب الرأي في حتى يجعل الله له من بعد عسرٍ يُسرا..».
هذا وقد أنصفه كثيرون وشهدوا له بالنّبوغ في الأدب والإنشاء، منهم العلاّمة الشّاعر خير الدّين الزِّرِكْلِي في كتابه الموسوعة (الأعلام 7/239) حيث قال عنه :
نابغة في الإنشاء والأدب، انفردَ بأسلوب نقيّ في مقالاته وكتبه. له شعر جيّد فيه رقّة وعُذوبة.