منهج الإسلام في التأسيس للعمل الاجتماعي د.إبراهيم والعيز باحث في الدراسات الإسلامية

لقد حدد الإسلام الفئات التي يصح أن تكون مستهدفة بالعمل الاجتماعي، وذكر من ذلك فئات اجتماعية يدعو وضعها الاقتصادي إلى الالتفات إليها، منها الفقير والمسكين واليتيم والمدين وابن السبيل والأسير والملهوف وصاحب دية القتل الخطأ والمحتاج إلى الزواج وغيرهم.
وتبعا لهذه الإشارات العامة لهذه الفئات، بذل الفقه الإسلامي جهدا كبيرا من أجل تحديد من يصح أن يكون مستهدفا بالعمل الاجتماعي من هذه الفئات، وعمل على حصرها في أضيق نطاق تدعو إليه الحاجة حتى لا تتحول بفعل الأريحية الاجتماعية إلى ما يشبه بقع الزيت التي تنتشر ذاتيا.
ومن هنا نستطيع القول؛ إن الإسلام يمتلك منظومة اجتماعية منتظمة ومحددة المعاني يؤدي المسلمون من خلالها العمل الاجتماعي في وعي كامل باختياراتهم وبالأهداف التي يسعون إلى تحقيقها وبأنواع الخلل الاجتماعي الذي يسعون إلى سده، وهي أيضا برامج عمل لتحقيق التنمية الذاتية الاجتماعية حتى يكف المسلمون عن التشوف إلى غيرهم وإلى ما يقدمه الغير في صيغ وأشكال عديدة قد يكون بعضها صادقا في بذل المساعدة والمعونة، وقد يكون بعضها ساعيا إلى استغلال الفقر وإلى استثمار العمل الاجتماعي في عملية الاستقطاب ومقايضة ما يعطيه بأشياء هي أثمن وأغلى مما يمنحه.
ومن الشواهد الدالة على أن الإسلام له منهج خاص في نشر وتثبيت دعائم العمل الاجتماعي داخل صفوف الأمة الإسلامية:
أولا: الدعوة إلى تقديم المساعدة للمحتاج
وتشمل؛
1- المدين الذي عجز عن سداد الدين لأسباب خارجة عن إرادته، فيقوم بيت المال في هذه الحالة بسدادها، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أولى بالمومنين من أنفسهم، فمن مات وترك مالا فماله لموالي العصبة، ومن ترك كلا أو ضياعا فأنا وليه ، كما أن الشرع الحكيم جعل الغريم واحدا ممن تصرف الزكاة في شأنه وحاجاته. قال تعالى؛ (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم). التوبة/60.
وقد حث الله في كتابه الدائنين على التسامح حيال المدينين الذين لا يستطيعون أداء الدين في موعده، فحبب إليهم أن يمدوا لهم في الأجل بدون مقابل حتى يتيسر لهم أداؤه، فقال: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة). البقرة/279. ثم تدرج في الحث على درجة أعلى من هذه، فحبب إلى الدائنين أن يتنازلوا عما لهم من دين في حالة عسرة المدين وأن يتصدقوا به ابتغاء وجه الله، نظرا لما يجب عليهم نحو الفقراء من أعمال اجتماعية إحسانية، فقال: (وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون). البقرة/279.
2- القاتل من غير عمد، فإن دية القتيل لا يتحملها القاتل وحده، بل يتعاون معه أهله وأصدقاؤه في دفعها، عن أبي هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى أن دية المرأة على عاقلتها .
3- ابن السبيل وهو الغريب عن أهل البلدة، فيعان على أمور حياته حتى يرجع إلى موطنه، وشاهد ذلك أن الله تعالى جعل ابن السبيل واحدا من الأصناف المستحقة للزكاة في قوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم).التوبة/60.
4- كفالة الأيتام الذين حرموا عطف آبائهم وحنانهم منذ مطلع حياتهم، وهم أشد حاجة إلى الشفقة والرحمة، وذلك بمحاولة تعويضهم عطف آبائهم وإشعارهم أن شيئا لم يذهب عنهم، ولهذا كانت كفالة اليتيم في الإسلام وتعهده بكل ما يصلح شأنه واجبا إنسانيا يلزم أن يقوم به الناس لمصلحة المجتمع قبل مصلحة اليتيم، ولذا رفع رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن كافل اليتيم حين قال في الحديث الذي رواه سهل بن سعد؛ أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وقال بإصبعيه السبابة والوسطى .
ثانيا: تشريع المشاركة في موسم الحصاد، حيث يقع على عاتق المسلم ضرورة إعطاء جزء من محصوله وإنتاجه للمعوزين والمحتاجين. قال الله تعالى: (كلوا من ثمره إذا أثمر وءاتوا حقه يوم حصاده) الأنعام/142. قيل هي الزكاة المفروضة العشر ونصف العشر ، وقيل هو حق آخر سوى الزكاة أمر الله به ندبا .
ثالثا: تشريع المعونة، وهي إعطاء كل ما ينفع لمن يحتاج إليه، كإعطاء الماعون وعدم منعه، وقد توعد الله مانعي الماعون بالويل والثبور في يوم الدين فقال تعالى: (فويل للمصلين الذين هم عن صلاته ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون).الماعون/4-6. وفي تفسير الجلالين: الماعون كالإبرة، والفأس، والقدر، والقصعة .
رابعا: تشريع الضيافة؛ خاصة منها ضيافة المسافر التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: ومن كان يومن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، قيل: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه .
خامسا: الإعفاف؛ ويهدف إلى صيانة العفة لدى الذكور والإناث، وعدم الانسياق وراء الشهوة، والوقوع في المعصية. قال تعالى: (وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) النور/32. ففي الآية أمر بتزويج المرأة التي لا زوج لها، والرجل الذي لا زوجة له، سواء سبق لكل منهما زواج أم لم يسبق .
سادسا: تشريع الإسعاف، فقد أوجب الإسلام على من يعلم بحال إنسان في حالة مرض شديد أو جوع يخشى معه هلاك ذلك الشخص أن يبادر إلى إنقاذه، فإن كان عنده فضل من طعام أو شراب أو دواء أو مال يشتري به ما يدفع الهلاك عن ذلك الإنسان وجب أن يدفعه إليه، فإن امتنع كان لذلك المضطر أن يأخذه منه عنوة ويقاتله عليه، فإن قتل كان على المانع القصاص، وإن قتل المانع لم يكن على قاتله المضطر شيء. قال العلامة ابن حزم؛ من عطش فخاف الموت ففرض عليه أن يأخذ الماء حيث وجده وأن يقاتل عليه… ولا يحل لمسلم اضطر أن يأكل ميتة، أو لحم خنزير وهو يجد طعاما فيه فضل عن صاحبه، لمسلم أو لذمي، لأن فرضا على صاحب الطعام إطعام الجائع. فإذا كان ذلك كذلك فليس بمضطر إلى الميتة ولا إلى لحم الخنزير… وله أن يقاتل عن ذلك، فإن قتل (أي الجائع) فعلى قاتله القود، وإن قتل المانع فإلى لعنة الله، لأنه منع حقا، وهو طائفة باغية. قال تعالى: (فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) الحجرات/9. ومانع الحق باغ على أخيه الذي له الحق .
سابعا: تشريع الإغاثة في حالة الطوارئ، وذلك بدعوته إلى أن يتكاثف المجتمع الإسلامي جميعه إزاء الأخطار التي تحدق به، كما في حالة تعرض بلاد المسلمين إلى الغزو من طرف الأعداء. قال تعالى: (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله). التوبة/41. ومن هنا فقد قرر العلماء أن العدو إذا أصبح يهدد البلاد الإسلامية، ولم يكن في خزينة الدولة ما يكفي للإنفاق على الجيش وتجهيز المقاتلين وشراء السلاح، وجب أن تأخذ الدولة من أموال الناس بقدر ما يندفع به الخطر، وتأمن الأمة على أرواحها وأموالها واستقلالها. قال الإمام الشاطبي: «…أنا إذا قدرنا إماما مطاعا مفتقرا إلى تكثير الجند لسد حاجة الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال عن المال وارتفعت حاجة الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام -إذا كان عدلا- أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم في الحال، إلى أن يظهر مال في بيت المال، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك» .
ومما يستشهد به في هذا الصدد أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل إغاثة الملهوف حقا واجبا على من يعرف حاله أو يراه، وليس على الحاكم فقط، فعن البراء قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس من الأنصار فقال: إذا أبيتم إلا أن تجلسوا، فاهدوا السبيل وردوا السلام وأعينوا المظلوم ، وعند ابن حبان: وأغيثوا الملهوف .
ومن هنا نقرر أن واجب الدولة في حالة الكوارث العامة كالفيضانات والزلازل والمجاعات وما إليها، أن تسعف المنكوبين، لا بالخيام والدقيق فحسب، بل بتمكينهم من الحياة الكريمة التي يحياها سائر الناس. فإذا كانت خزينة الدولة تعجز في الغالب عن القيام بهذا الواجب الاجتماعي نحو هؤلاء المنكوبين، فإن الدولة تستطيع أن تفرض ضرائب خاصة لهذه النكبات تستوفيها من الأغنياء كل على حسب ثروته، خاصة وأنها تجد في أصول الشريعة الكلية وقواعدها العامة ما يشرع لها هذا الحق. ولعل هذا هو واجب التعاون على البر والتقوى الذي أمر الله به في القرءان الكريم، وهو من مستلزمات الأخوة والتماسك الذي يفرضه الإسلام شعارا للمجتمع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *