عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا».(1)
لقد اشتمل هذا الحديث على مواعظ جليلة وفوائد ثمينة، منها:
الفائدة الأولى: الصدق أصل كل خير وفلاح
فلقد كان رسول الله أصدق الناس، بل ما عرف بين قومه قبل البعثة إلا بالصادق الأمين؛ ولأهمية هذا الخلق نجد الله تعالى يمتدح به الأنبياء والرسل. يقول تعالى: {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا}(2)، ويقول: {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا}(3)، ويقول: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا}.(4)
والصدق عادة ما يقترن بالأقوال، وهو في حقيقته أوسع من ذلك وأعم، وقد بين ابن القيم رحمه الله مجالاته وحصرها في ثلاث: صدق الأقوال، وصدق الأفعال، وصدق الأحوال، يقول رحمه الله: «فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها؛ والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد؛ والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوسع، وبذل الطاقة؛ فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق».(5)
فالصدق -في ضوء هذه المعاني- هو أس الفضائل الأخلاقية ولبها الذي تتفرع عنه سائر القيم الأخرى، بل هو الجوهر الذي تنبني عليه رسالة الإنسان في الكون، إن فاعلية الإنسان في الحياة منوطة بمدى صدق الإنسان في علاقاته المختلفة: علاقته بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته مع الناس، وعلاقته بالكون المحيط به.
والمتأمل في مضمون هذه الوصية يقف على حقيقة جوهرية، وهي أن مرتبة الصديقية لا يدركها المرء حينما يصدق مرة أو مرتين، أو يوما أو يومين، بل لا بد من الاستمرار على ذلك في كافة الأزمنة والأمكنة والأحوال، وقد عبر النبي عن ذلك بقوله: «ولا يزال» وقوله: «يتحرى»، فكلا التعبيرين يفيدان المداومة والاستمرار.
الفائدة الثانية: الكذب أصل كل شر وبلاء
والكذب يطلق ويراد به الإخبار عن الشيء بخلاف الواقع، وقد ورد التحذير منه في القرآن في 283 آية حسب ما ذكره محمد فؤاد عبد الباقي.(6)
فالكذب من أكبر الخطايا، وهو طريق يؤدي بصاحبه إلى النار، دل على ذلك ما جاء في الحديث: «وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ».
والكذب يحرم صاحبه من الهداية الربانية، قال تعالى: {إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب}.(7)
والكاذب ملعون، قال تعالى: {فلعنة الله على الكاذبين}.(8)
والكذب بوابة النفاق، فعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خلة منهم كانت فيه خلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر».(9)
والكذب طارد للبركة، فعن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحقت بركة بيعهما».(10)
والكذب خيانة عظمى، فعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «كبرت خيانة أن تُحدث أخاك حديثا هو لك مصدق وأنت له كاذب».(11)
وكما أن الصدق أنواع فالكذب كذلك، فمنه ما يتعلق باللسان، ومنه ما يدخل في الأفعال، ومنه ما يكون في النِّيات.
أما كذب اللسان فهو أن يتحدث المرء بخلاف الواقع ولو بالمزاح أو بقصد إضحاك الناس، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ويل للذي يحدث، فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ثم ويل له».(12)
أما كذب الأفعال فهو أكثر خطورة وأشد تأثيرا من كذب الأقوال، ومن أمثلة ذلك: ما حكاه الله لنا عن إخوة يوسف عليه السلام، إذ جاءوا أباهم عشاء يبكون بكاء كاذبا.. وجاءوا على قميصه بدم كذب.
أما كذب النيات، وهو أن يتظاهر الإنسان بفعل شيء لله، وهو في الواقع غير كذلك، ومثاله حديث أبي هريرة قال: «حدثني رسول الله أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل يقتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله تبارك وتعالى للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار؛ فيقول الله تبارك وتعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة كذبت، ويقول الله بل أردت أن يقال فلان قارئ، فقد قيل ذاك؛ ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب؛ قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق؛ فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، ويقول الله: بل إنما أردت أن يقال فلان جواد، فقد قيل ذاك؛ ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقال له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت؛ فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء، فقد قيل ذاك؛ ثم ضرب رسول الله ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة».(13)
فالكذب أصل كل شر وبلاء، والصدق أصل كل خير وفلاح، وما أحسن قول الشاعر:
لا شيء فوق أديم الأرض يعجبني**** كالصدق يبن الورى في القول والعمل
وليس شـيء لعـمـر الحـق يؤلمنـي*** مثـل النفـاق ومثـل الكـذب في الرجـل
هــذا ويــؤلــمــنــي أن أرى أثـــرا*** للصـدق والكـذب فـاش غيـر منـتـقــل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-(1) البخاري، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، حديث رقم: 6094؛ ومسلم، باب قبح الكذب وحسن الصدق، حديث رقم: 2607.
-(2) مريم: 41.
-(3) مريم: 56.
-(4) مريم: 54.
-(5) مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، تحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي – بيروت ط 3، 1416هـ، ج 1، ص: 258.
-(6) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب المصرية 1364هـ دون طبعة، ص: 598.
-(7) غافر: 28.
-(8) آل عمران: 60.
-(9) البخاري، باب إذا خاصم فجر، حديث رقم: 2459؛ ومسلم، باب بيان خصال المنافق، حديث رقم: 106.
-(10) البخاري، باب إذا بيّن البيعان ولم يكتما، حديث رقم: 2079؛ ومسلم، باب الصدق في البيع، حديث رقم: 1532.
-(11) سنن أبي داود، باب في المعاريض، حديث رقم: 4971.
-(12) سنن الدارمي، باب في الذي يكذب ليضحك به القوم، حديث رقم: 2907.
-(13) صحيح ابن خزيمة، باب التغليظ في الصدقة، حديث رقم: 2482.