كلما أراد “مدرسنا” أن يتوجه إلى المدرسة، لملاقاة المتعلمين، يشعر وكأنه يتوجه إلى جحيم تحتويه أربعة جدران.
كان لا يعرف سبب ذلك، فهو يحمل شهادة الدكتوراه، وله زاد معرفي لا يستهان به، كما أن له خبرات وتجربة طويلة في ميدان التدريس، إلا أنه كان يعاني معاناة شديدة منذ أن ولج ذلك الميدان.
بعض الزملاء الذين ليست لهم مشاكل مع الفئة المستهدفة والذين سبق لهم أن تعرضوا لتدريبات وتكوينات بيداغوجية كانوا يلحون عليه أن يخضع نفسه لتحيين المهارات والتكوينات، مع الاطلاع على ماجد في علم النفس التربوي وعلم الاجتماع… والتي قد تساعده على تخطي العقبة الكؤود التي تعيق تواصله مع المتعلمين، لكن”مدرسنا” كان يرفض مقترحاتهم بشدة، بحجة أن لغة العنف، هي التي يراها مناسبة للتربية والتأديب “مع ولاد اليوم”، محتجا أيضا بأن أجيالا حققوا مناصب عليا سبق له أن درسهم، واستدل على ذلك بنماذج كعميد الشرطة الذي درس عنده فيما سبق، والذي لا تسمع به أفول المطالبين بحقوقهم والمتظاهرين، حتى تتفرق وتختفي خوفا من قساوة رجاله، ولم يدر أنه هو الذي كان سببا في نقل العقدة المرضية لكثير من تلامذته، والذين انتشروا بين طوايا المجتمع، تلك العقدة التي لا يرتاح أصحابها، حتى يضربوا ويعذبوا ويمكن أن يقتلوا… كما قال الشاعر:
مشى الطاووس يوما باختيال —–فقلد شكل مشيته بنوه
فقال على ما تختالون عـلى ما —– قالوا مشيت به ونحن مقلدوه
امتطى سيارته، أدار المفتاح، لكن المحرك لم يستجب لما أراده، ربما كان به عطب ميكانيكي، نزل ورفس الباب بقوة وهو ينعت سيارته بالملعونة، كانت الساعة تشير إلى الثامنة إلا ربع، خرج يهرول من منزله لعله يجد سيارة أجرة تنقله إلى مقر عمله.
أمام باب حجرة الدرس وقف المتعلمون ينتظرون… ويتمنون ألا يأتي ذاك المدرس الفظ الغليظ، الذي طالما أهانهم وسبهم وشتمهم في الحصة الماضية.
في ذلك الوقت كان يحدث سائق سيارة الأجرة، وكلما أراد أن يتدخل السائق يقاطعه، ظنا منه أنه مجرد سائق ولا يفقه في واقع الحياة شيئا، أراد أن يناوله ثمن الرحلة القصيرة، نزل بتثاقل، نظرا لثقل وزنه، حاول أن يغلق الباب، فبادره السائق وناوله استدعاء لحضور أمسية في موضوع التنمية الذاتية التي يديرها، وهو الحامل لشهادات عديدة في ذلك الميدان، والذي له علاقة بميدان التدريس.
ما أن رأى المتعلمين حتى انقبضت أنفاسه، وكأنه يتسلق جبلا شديد الانحدار، تذكر تلك الفتاة التي نصحته باعتماد العقد الديداكتيكي، مقررا الانتقام منها لأنها جعلت منه أضحوكة أمام زملائها، اقترب منهم متوجسا يترقب حركاتهم، أمرهم بالدخول بإشارة قاسية، دون أن يلقي تحية عليهم، دخلوا وجلين صامتين، تحسسوا أماكنهم بلطف شديد، وما هي إلا لحظات حتى أمرهم بصوته الجهوري أن يذكروه بعنوان الدرس السابق، أراد ابن الاسكافي أن يتكلم، لكنه رفض أن يعطيه الكلمة، فبقي الجمع صامتا، وبرهة صرخ قائلا:
ــ هل نسيتم ما درسناه في الحصة السابقة؟ قلت لكم إنكم بلداء، يبدو أنكم ستلجون جامعات السخافة “يعني الصحافة” لتدونوا وتنشروا واقعكم المرير، توجه إلى الفتاة التي يريد أن ينتقم منها، قائلا:
ــ هيا أخبريني أيتها المجتهدة، لعل والدك حدثك عن التقويم التشخيصي، ماذا درسنا في الحصة الماضية؟ لم تشأ أن تجيبه، لأنها تعرف أنهم لم يدرسوا شيئا، استدار في اتجاه باقي التلاميذ صارخا:
ــ هيا أجيبوني ما ذا درسنا في الحصة الماضية؟ لماذا تتركوني أتكلم وحدي.
استعد أحد المتعلمين للإجابة، وكان والده رجل أمن، فلما رآه المدرس استبشر بإجابته ظنا منه أنها ستكون في مسار ما يطمح إليه، ليستهزئ بالآخرين وخصوصا الفقراء، ونسي “مدرسنا” أن التلاميذ الذين تتقارب أعمارهم وهمومهم… غالبا ما يتوحدون ويتفقون… بغض النظر عن المستوى الاجتماعي، فلما طال صمت التلميذ قليلا، ألح عليه المدرس أن يتكلم، عندها قال المتعلم في رباطة جأش:
ــ يبدو أنه وقع لك سهو أستاذ، رد المدرس: ماذا؟ أنا لا أنسى أبدا، هل فهمت؟ لا يمكن أن تنعتوني بهذه الصفة، المدرس لا ينسى… لا ينسى، أنتم الذين لم تحفظوا درسكم، رد التلميذ بهدوء: أستاذ، نحن في الحصة الماضية لم ندرس شيئا، وإنما طلبت منا بأن نمتثل لتعليماتك، وقراراتك… ثم سألتنا عن مهن آبائنا، وقمت بتغيير أماكننا…، عندها قال المتعلمون جميعا:
ــ نعم أستاذ، هذا كل ما حصل.
أخذ المدرس يضحك بصوت عال في حالة هستيرية، وهو يتوجه صوب الفتاة التي أشعرته بأنه لا يفهم في البيداغوجيا، وهو يقول في تهكم:
لقد أجاب زميلك عن سؤالي، إن هذا يسمى التقويم التشخيصي، لكن نفس التلميذ رد عليه بشجاعة:
ــ التقويم التشخيصي له علاقة بتمثلات المتعلم حول موضوع معين، كما أننا من خلاله نتذكر عناوين ومحاور الدورس والمعارف السابقة… فاندهش المدرس، متسائلا مع نفسه خفية:
ــ يا إلهي، من أين يحصلون على هذه المعلومات، ونسي صاحبنا أن متعلميه، لهم اطلاع كبير على ما تجود به المواقع الإكترونية، عبر شبكة الأنترنت.
أخذته إغفاءة يسيرة وهو ينظر إلى حارس السيارات من خلال النافذة يحمل هراوة كبيرة، متمنيا أنه لو أخذها منه لينهال على أولائك الذين يبهروه بأجوبة لا قبل له بها، بل لا يحسن البحث عنها من خلال الكتب والمواقع… رنَّ الجرس، تنفس التلاميذ الصعداء، بدأوا يتسللون، فما استفاق على حجرة الدرس فارغة، فصار يتوعد الذين خرجوا دون أن يستأذنونه.