ما هي وظيفة الإنسان؟ هذا هو السؤال/المدخل الذي تعود إليه الاختلافات الجوهرية للاتجاهات الفكرية، وهناك اتجاهان رئيسيان في الجواب على هذا السؤال:
أولهما هو “الاتجاه المدني” ويرى أن وظيفة خلق الإنسان هي “العمارة” وكل ما سوى ذلك وسيلة لها، فالوحي والشرائع والعبادات إنما هي وسائل لتحقيق العمارة والحضارة والمدنية، فالعمارة هي الغاية الجوهرية والأولوية الرئيسية للإنسان، وانبنى على ذلك أن اشتغل هذا الخطاب بقضية التمدن وتوجيه كافة المعطيات الأخرى إليها والتسامح في كل ماسواها، ومن ثم تقييم المجتمعات والثقافات والشخصيات بحسب منزلتها في هذه “المدنية” الدنيوية.
و”المدنية” بحسب هذا الاتجاه مفهوم شامل يدخل فيها كل ما يدفع باتجاه تحقيق الرفاه البشري وسعادة الجنس الإنساني في كافة ميادين الحياة الدنيوية، والتقدم في العلوم الفلسفية والإنسانية والطبيعية والفنون، ونحوها.
أما الاتجاه الثاني وهو “الاتجاه الشرعي” فيرى أن وظيفة الإنسان هي “العبودية” بمعنى أن الله خلق الإنسان وأرسل الرسل وأنزل الكتب لتدل الناس على الله وعبادته، وبيان دقائق ما ينبغي له سبحانه وما لا ينبغي في معاملته جل وعلا، وبيان قواعد تنظيم حقوق العباد، وأن كل ما في هذه الدنيا إنما هو متاع ولعب ولهو، فيجب أن يستعان بما يحتاج منها على عبودية الله، وكل ما لم يعن على عبودية الله ولم يؤد إلى هذا الغرض فهو دائر بين مرتبتين لا ثالث لهما: إما محرم يجب الكف عنه، وإما فضول يشرع الزهد فيه.
فالعمارة والحضارة والمدنية مجرد وسيلة لإظهار الدين وإقامة الشعائر والشرائع، فلا يحمد من هذه المدنية إلا ما حقق هذه الغاية، وتتلخص منزلة المدنية بكل اختصار في المبدأ الأصولي الشهير المعروف بـ”بمقدمة الواجب” والذي ينص على أن: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، وعليه فإنه إذا تم بدونه فلا يجب.
وحين تكلم الإمام ابن تيمية عن “وظيفة الدولة” حسب التصور الإسلامي في كتابه “السياسة الشرعية” قدم تلخيصاً هاماً يكشف وسيلية المدنية وكونها مرتبطة بالغاية الدينية، كما يقول الإمام ابن تيمية:
(فالمقصود الواجب بالولايات:
1- إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا.
2- إصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم).
و”العبودية” بحسب هذا الاتجاه نظام من الشُّعَب التدريجية الشاملة أعلاها قول لا إله الا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فتبتدئ بإفراد الله وتجريد القلب له ويليها الفرائض العينية ثم الفروض الكفائية التي يتحقق بها نفع الناس في مصالحهم العامة.
وإذا تزاحمت شعبتان من شعب العبودية فلا يقدم ما يتعلق بالشأن المدني مطلقاً، بل ثمة قواعد شرعية دقيقة في المفاضلة والموازنة بين مراتب الاهتمامات والأعمال والشؤون العامة، ككون رعاية الفضيلة مقدمة على الحرية الفنية، وتقديم الفرض العيني على الكفائي، وتقديم النفع المتعدي على النفع الخاص، وتقديم الواجب على المندوب، ونحو ذلك.
ولذلك فإن جمهور الأعمال العبادية المحضة تندرج في “الأحكام التكليفية” باعتبارها الصورة النهائية للمراد الإلهي، وجمهور الأعمال المدنية الدنيوية تندرج في “الأحكام الوضعية” كالسبب والعلة والشرط والمانع باعتبارها وسيلة للحكم التكليفي.
ومن ثم ينبني على هذه الرؤية تقييم المجتمعات والثقافات والشخصيات بحسب منزلتها في هذه “العبودية”.
وتفريعاً على اختلاف هذين الاتجاهين في تحديد الوسيلة والغاية انبنت أكثر الفروق الهائلة والتفاصيل اللانهائية من الآثار، واستتبع ذلك تفاوتاً كبيراً في المواقف، فكل قضية فكرية يختلف فيها الناس تجد فريقاً لحظ أثر هذا الموقف على العبودية والفضيلة فاتخذ موقفا معينا، بينما الفريق الآخر لحظ علاقة هذه القضية بالحضارة والمدنية فاتخذ موقفاً مغايراً، فكل فريق معني بغايته ومقصده النهائي.
والحقيقة أن كتاب الله سبحانه وتعالى لم يجعل هذه القضية عائمة أو محتملة أو نسبية، بل حسمها بشكل يقيني واضح صريح وكشف الغاية من خلق الإنسان بلغة حاصرة فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات:56.
وبين سبحانه أنه إنما بدأ خلق الإنسان في هذه الدنيا ثم بعثه بعد موته ليحاسبه على هذه الغاية وهي القيام بالعبودية كما قال سبحانه: {إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} يونس:4، وفي كثير من المواضع ينبه سبحانه وتعالى بين ثنايا الآيات على أن وظيفة الخلق وغايته إنما هي ابتلاء الناس في هذه العبودية كما قال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} الملك:2.
وحسن العمل في هذه الآية ونظائرها هو الإيمان والعمل الصالح على حسب درجاته الشرعية، ولو كانت عمارة الأرض بالحضارة والتمدن والعلوم الدنيوية هي المقصود الأولوي بحسن العمل لما أرسل الله الرسل في التاريخ البشري أصلاً، لأن الله سبحانه قد أثبت تميز تلك الأمم أصلاً في عمارة الأرض وعمق علمها بالدنيا، كما قال تعالى عن الأمم السابقة: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} الروم:9، وقال عن علمهم المدني: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الروم:7.
وبين سبحانه وتعالى وظيفة النبوات والكتب السماوية والشرائع وأنها كلها تهدف لتأكيد عبادة الله والاستعداد للحياة المستقبلية بعد الموت، وليست المنافسة العالمية في المدنية والحضارة الدنيوية، كما قال تعالى عن وظيفة الرسل: {ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ..} الآية النحل:36.
وذكر سبحانه السؤال الإلهي عن تحقيق هذه الغاية فقال سبحانه: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا} الأنعام:130.
وقال سبحانه مبيناً وظيفة الشرائع: {ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} البينة:5.
وغير ذلك كثير من محكمات الوحي التي كشفت بشكل حاسم غاية خلق الإنسان، والذي يعنينا هاهنا ذكر بعض الشواهد لا استقراؤها. (مآلات الخطاب المدني؛ إبراهيم بن عمر السكران).