من المواضع التي أثير حولها جدال ونقاش طويل خصوصا في السنين الأخيرة موضوع الرقية من الشيطان ودخوله جسم الإنسان، فقد عقدت لقاءات وندوات وأجريت برامج واستطلاعات وأخذت فتاوى وتصريحات، وكلها تتراوح بين مثبت للدخول ونافيه، وبين الرقية الشرعية وغيرها من الرقى البدعية، وتبيانا للحق والصواب وما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعين والأئمة المعتبرين، دبجت سطور هذا المقال مركزا على ثلاث محاور لها علاقة بالموضوع مستدلا بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة.
المحور الأول: إثبات الدخول والرد على من نفاه
زعم قوم أن دخول الشيطان في جسم الإنسان أمر لا يقبله العقل حيث أنه لا يمكن أن يدخل خلق خلقه الله من نار في جسم خلقه الله عز وجل من تراب، وفسَّروا تخبُّط المصروع وكل ما يقع له بأنها أمراض نفسية ونوبات عصبية، وأكثر من تبنى هذا الطرح لا علاقة لهم لا من قريب ولا من بعيد بالعلم الشرعي، وإنما تجد جلَّهم يشتغلون في الميدان الطبي وخصوصا منه النفسي، ومن وجدته من أصحاب هذا الرأي ينتمي إلى ميدان العلم الشرعي فاعلم أنه لم يوفق للصواب، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه: “الطب النبوي” معقبا على صنف معين من الأطباء المنكرين للدخول: “وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة، فأولئك ينكرون صرع الأرواح ولا يقرون بأن تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وليس من الصناعة الطبية ما يدفع ذلك الحس والوجود شاهد به.. ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم”.
والأدلة على ذلك كثيرة، فمن القرآن: “الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ” البقرة، اتفق المفسرون عند هذه الآية على كلمة واحدة فقال ابن كثير رحمه الله: “أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشياطين له، وذلك أنه يقوم قياما منكرا” وهكذا قال أيضا ابن جرير والقرطبي والسعدي وغيرهم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “دخول الجن في بدن الإنسان ثابت باتفاق أهل السنة والجماعة.. وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجن في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر وادَّعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك” مجموع الفتاوى م 24 ص:277-276 .
أما الدليل من السنة فما أخرجه البخاري في الصحيح عن أبي هريرة قال: “لقد رأيتني أصرع بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجرة عائشة، فيقال: مجنون وما بي إلا الجوع.. وذكر الحديث “، وكذلك قصة المرأة السوداء في الصحيحين مما يدل على أن الصرع كان معروفا عند الصحابة.
وأما الأدلة العقلية فكثيرة أيضا، منها تغير نبرة صوت المصروع وتكلمه باللغة العربية الفصحى وبلغات أجنبية أخرى، مما لا يتقنه أثناء يقظته، وهذا أمر ملحوظ مشهود معروف بين الناس.
المحور الثاني: تعريف الرقية الشرعية
بعدما تبين للعاقل المنصف بما لا يدع فرصة للشك بأن الشيطان قد يدخل جسم الإنسان، يبقى سؤال يطرح نفسه بشدة: كيف يطرد الشيطان من هذا الجسم، وبعبارة أخرى ما هو تعريف الرقية الشرعية؟
الرقية الشرعية هي: الطريقة التي يرقي بها الراقي نفسه أو غيره، وتكون بتلاوة آيات من كتاب الله عز وجل وأدعية غير مخالفة للشرع الحكيم، قال ابن حجر رحمه الله في الفتح عند شرحه لحديث أبي سعيد الخدري عندما رقى سيد ذلك الحي الذي لدغ. وفي الحديث جواز الرقية بكتاب الله عز وجل ويلتحق به ما كان بالذكر والدعاء والمأثور وكذا غير المأثور، مما لا يخالف ما في المأثور، وعلى الراقي أن يكون سليم العقيدة صحيح المنهج متعلق القلب بالله عز وجل.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الطب النبوي: “وعلاج هذا النوع يكون بأمرين أمر من جهة المصروع و أمر من جهة المعالج، فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان، فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحا في نفسه جيدا، وأن يكون الساعد قويا فمتى تخلف أحدهما لم يُغن السلاح كبير طائل، وكيف إذا عدم الأمران جميعا؟ يكون القلب خرابا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه ولا سلاح له، والثاني من جهة المعالج أن يكون فيه هذان الأمران أيضا حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله: أخرج منه، أو يقول: باسم الله، أو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله” اهـ.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: أخرج عدو الله أنا رسول الله ولكن شتان ما كان عليه السلف وما أحدثه الخلف من طرق ما أنزل الله بها من سلطان تخدش في عقيدة المسلم، بل منها ما هو شرك واضح، ومنها ما هو مفضي إليه.
لقد حشر في هذا الميدان جهال لم يتقيدوا بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية ولا بهدي سلفنا الصالح، الذين طبقوا السنة وفسروها تفسيرا صحيحا والأمثلة في هذا المجال كثيرة للأسف الشديد أكتفي بذكر بعضها:
1- انعقاد ما يسمى بـ”الليلة”، وهي عبارة عن طقوس تمارس في ليلة معينة ومن ضمن هذه الطقوس: موسيقى وأهازيج معروفة عندهم تسمى بـ”كناوة” حيث يتغنون بكلمات لا تخلو من شرك كالاستغاثة بالجن والأولياء فيما يزعمون. وأعظم مصيبة تقع فيما يسمى بـ”الليلة” هي ذبح الذبائح قربانا للشيطان الساكن في بدن الإنسان من أجل الخروج منه، وقد يخرج فعلا ثم لا يلبث قليلا حتى يعود مرة أخرى، ولكن الطامة الكبرى التي لا بد أن تذكر هي أن المصروع بعد هذه الليلة يكون قد خسر كل شيء، ووقع في المحذور إذ ذبح لغير الله تعالى، قال تعالى: “إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ” النساء.
2- رقية الراقي نفسه أو غيره برقى تتضمن كلماتها شركا أو ما يفضي إليه، كالذي يردِّد كلمات وتعويذات يستعين من خلالها بملوك الجن كي يأمروا تابعهم أن يخرج من جسم الممسوس.
3- أمر الراقي المُسترقي أن يجعل بيضة تحت رأسه إذا نام، ثم إذا استيقظ في الصباح يأتي إليه ويحكي له ما رأى، ويحكم على الحالة من خلال ذلك الحلم. ولا يخفى بُعد هذه الطريقة عن الهدي النبوي. وعموما فالمخالفات كثيرة سواء منها المتعلقة بالعقيدة أو الاتباع، ولشيخنا أبي سهل محمد المغراوي حفظه الله محاضرة ماتعة في الموضوع من أراد التفصيل فليرجع إليها.
المحور الثالث: وقاية الإنسان من شر الشيطان
ولعل هذا المحور أهم حلقة في هذا البحث إذ الوقاية خير من العلاج، فعلى الإنسان أن يبحث عن كيفية وقاية نفسه من هذا الشر وأول أمر يجب أن يحرص عليه ويعضّ عليه بالنواجذ هو: توحيده وعقيدته، فمن فرط في عقيدته وخدش توحيده و كان من أولئك الذين يؤمنون بالخرافات والشعوذة والدجل، ويحافظون على الذهاب إلى الأضرحة والمواسم، وتعليق التمائم والاستعانة بالسحرة والمشعوذين، والتلفظ بالألفاظ الشركية كالحلف بغير الله، فلا شك أن هذا لا يلومَنَّ إلا نفسه وهو الجاني عليها.
الأمر الثاني الذي عليه تفقده والحرص عليه هو: منهجه واتباعه فلا يكون مبتعدا ولا محبا للمبتعدين ولا شك أن الشياطين تكون قريبة من المخالفين بعيدة عن المتبعين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق عمر: “ما سلك عمر فجا إلا وسلك الشيطان غير فجه” أخرجه الشيخان.
الأمر الثالث: المحافظة على الصلوات وقراءة القران وخصوصا سورة البقرة وكذا الأذكار الصباحية والمسائية.
الأمر الرابع: الابتعاد عن المعاصي والمنكرات فالمخمر والمغتاب والعاق والمتبرجة وغيرهم من العصاة كيف لهم أن يسلموا من شر الشيطان؟ وقد اتخذوه جليسا، وعموما فإن هذا المحور يلخصه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: “احفظ الله يحفظك..” أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح.
فمن حفظ الله بالائتمار بأوامره والانتهاء عند نواهيه حفظه الله عز وجل من كل شر، ومن تعدى حدود الله فإن الله عز وجل يكِله إلى نفسه، وبالتالي يكون فريسة سهلة للشيطان. والمحفوظ من حفظه الله تعالى.