أهمية دراسة السيرة النبوية

من سديد القول وجميل الحكم قولهم: “إنَّ الأمَّة التي لا تحفظ تاريخها لا تستطيع أن تحفظ حاضرها ومستقبلها”.
ذلك لأنَّ حفظ التاريخ هو حفظ جذور الأمَّة وأصولها ومآثر رجالها وسابق أيَّامها، فالتاريخ يُعَدُّ ذاكرة الأمم والشعوب، لذلك حرصت أمم الأرض قاطبة على تدوين ماضيها ورسم أمجادها والاحتفاء بتاريخها؛ ولو كان مليئا بالجور والظلم والجهل والأحداث المؤلمة؛ لأنَّ المهم في ذلك أن يُدرس ويُعرف فيُستخرج منه الدروس والعبر، ويكون نبراسًا يستضاء به للتعامل مع الأحداث في الحاضر والمستقبل، كما تحرص كل أمَّة من الأمم اليوم على تربية النشء على حفظ تاريخ أمَّته وترسيخ معرفته، ليكبر الجيل على حبِّ أسلافه والافتخار بأصوله والاعتزاز بماضيه.
ولا غرو أن يعتني أهل الإسلام بتاريخهم، ويهتمُّوا بحفظه ويجدُّوا في صيانته، ونقله للأجيال المتلاحقة، وما ذاك إلاَّ لأنَّ درَّة تاريخ هذه الأمة وتاجه وفاتحته هو سيرة نبيِّها -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
وعليه؛ اعتنى العلماء بالسِّيرة النَّبوية العطرة منذ فجر الإسلام وبدأوا تدوينَها في القرن الأوَّل، وتتابعوا على التَّأليف فيها في كتب مفردة شاملة لجميع أبواب السيرة أو بعضها أو في ضمن مصنَّفات تحوي موضوع السيرة والمغازي وغيرها، لذا قال ابن كثير -رحمه الله-: “وهذا الفنُّ مما ينبغي الاعتناء به، والاعتبار بأمره، والتهيُّؤ له”.
بل درج السَّلف -رضي الله عنهم- على حث أبنائهم على تعلُّم السيرة النَّبوية والغزوات، وعلَّموهم إيَّاها في الصغر قبل الكبر، قال علي بن الحسين زين العابدين: “كنَّا نُعَلَّمُ مغازيَ النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- كما نُعَلَّم السُّورةَ منَ القرآنِ”.
وهذا لإدراكهم أهمية هذا العلم وحاجة الناس إليه، وضرورة رسوخه في الأذهان، ونحن اليوم أيضًا في أشدِّ الحاجة إلى هذا العلم لنبيِّن للعالم أجمع جمال وصفاء ديننا الحنيف وسيرة نبينا الكريم -صلَّى الله عليه وسلَّم- الذي تجرَّأ على الطعن فيه وسبِّه والتشكيك في نبوَّته كثيرٌ من أوباش الكفَّار في مواطن من أصقاع الأرض، فكان لزاما على المسلم الحريص على خير نفسه وغيره أن يلمَّ بسيرة نبيِّه -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ويتعلَّم ما يجب أن يتعلَّمه منها، ليكون على بيِّنة من أمره، وليعرف بذلك قدْرَ نبيِّه الذي أوجب الله عليه حبَّه واتباعَه وطاعتَه، وسدَّ جميع الطرق إلى الجنَّة إلاَّ طريقَه.
فالسيرة النَّبوية العطرة لا تُقرأ للتسلية والترويح عن النفس، ولا في المناسبات والاكتفاء بذلك؛ وإنَّما تقرأ السيرة لأخذ العبر واستخراج الدُّرر، واستنباط الفوائد والنكت، ونَصبها نبراسا يستضيء بنورها كلُّ مؤمن في هذه الحياة، يجد بها طريق الهداية.
وإليك أخي القارئ في هذا المقام بعض ما يجتنيه دارس السيرة النبوية من فوائد:
1- تحقِّقُ له معرفةَ نبيِّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- معرفةً تفصيليَّةً، فيعرف مولدَه ونسبَه وأسماءَه ونشأته ووفاته، وسيقف على أحوالِه وأوصافِه وشمائلِه وخصائصه ودلائل نبوتِه ومعجزاتِه وسياستِه وتدبيرِه وجميعِ غزواتِه وسراياه؛ ولابدَّ أن تورِّثَ هذه المعرفة في النُّفوس حبَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- وإجلالَه وتوقيرَه وتعظيمَه، ثمَّ إنَّ هذه المحبَّة ستدفعُ بالعبد إلى متابعته في هديه والاقتداء به في سيرته قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾.
2- تزيد في قوَّة الإيمان واليقين والثَّبات على الدِّين، فإذا طالع المرء ما قاساه النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في دعوته لقومه وما عانى من عنادهم واستهتارهم وتسفيههم له ومحاولة التخلص منه وإخماد دعوته بجميع ما تمكنوا منه من وسائل..
وما أصاب الصَّحابة الأوائل الذين اتبعوه في ساعة العسرة من شدَّة المناوءة والمعارضة، ومن التعذيب والاضطهاد وأصناف الأذى والظلم، وأنواع الشَّتم والسِّباب من القريب والبعيد، ثمَّ لم يزدهم هذا كلُّه إلَّا تمسُّكا بدينهم وثباتا على عقيدتهم..
سيجد بذلك المطالع لأحداث السيرة قوة إيمان، وزيادة يقين من أنَّ الإسلام حقٌّ، وأنَّ رسولَه -صلَّى الله عليه وسلَّم- حقٌّ، وأنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- هم أشرف هذه الأمَّة.
3- تبعث في نفس المؤمن الدارس لها زيادة اعتزاز بدين الإسلام وقوة حجة؛ لأنَّك إذا وقفت على شمائل هذا النَّبي الكريم -صلَّى الله عليه وسلَّم- الحميدة وأوصافه الجميلة فلن تجد منه -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلاَّ العدلَ والرحمة والإحسان في كلِّ أحواله وأوقاته؛ في الحرب والسلم، في الأمن والخوف، في الرخاء والشدة.
فيدرك دارسُ السِّيرة أنَّه أمامَ أَعْظَم رجل عرفه البشر على الإطلاق، إذ لم يبلغ مرتبته أحد من الناس فهو سيِّد ولد آدم عليه السَّلام، وعَلم بذلك أيضا أنَّ الإسلام جاء بالحكمة، والرحمة والسلام والوئام، وأنَّه جاء بكل خير وإصلاح، محذِّرًا من كلِّ شرٍّ وإفساد.
4- تنيرُ دربَ السَّالك لسبيل الدَّعوة إلى الله؛ لأنَّها التَّطبيقُ العمليُّ للإسلام، وهنا مربَطُ الفَرَس كما يقال، حيثُ إنَّ هذا الجانب من السيرة تناوله الدارسون للسِّيرة بخلفيات عَلِقت بأذهانهم ومناهج ترسَّخت في عقولهم.
فالحَرَكيُّ لا يرى السيرة إلَّا أسلوبا من أساليب السياسة، والثوريُّ لا يرى فيها إلا الغزوات والقتال، وهكذا…، ولو صفت أذهان هؤلاء وتجرَّدت عقولهم من الأحكام المُسبَقة، وصدقت قلوبهم في طلب الحقِّ لوجدوا أنَّ السيرة النبويَّةَ تمثِّلُ التَّطبيقَ العمَليَّ للإسلامِ بجميع جوانبه، وأنَّها الأسلوبُ الأمثلُ والأكملُ في الدَّعوة إلى الله وإصلاحِ المجتمعاتِ، إذ سيجدُ الدَّاعيةُ بغيتَه بتأمُّل أحوال وأطوار هذه السيرة العطرة، ففي حال الضَّعفِ -مثلا- والعيشِ تحت وطأة الكفَّارِ وسيطرتِهم فمأخذُه العهدَ المكيَّ، وفي حال الظُّهورِ والتَّمكين فلينظر إلى العَهدِ المدنيِّ.
لكن لا يكون ذلك على إطلاقِه، ولا بمعزَلٍ عن فُهوم العلماء الكبار، وتوجيههم لتلك الأخبار والآثار، وتصويبهم لهذه المدارك والأنظار.
والذي يجدر التنبيه إليه في هذا المقام أنَّ المتأمِّل في السيرة سيجد أنَّ قطب رحى الأمر كله هو الدَّعوة إلى توحيد الله عزَّ وجل والنَّهي عن ضده، إذ لم يَغفل عنه النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في جميع أحواله في ضعفه وقوته، في سلمه وحربه، في خوفه وأمنه، في ظعنه وإقامته، فكذلك ينبغي على الداعية أن لا يشرد ذهنه عن التوحيد أبدًا، وأن يجعله أوَّلَ دعوتِه وآخرَهَا.
5- تُعينُ على فَهم كتاب الله تعالى؛ إذ أنَّ فيها تفسيرًا وبيانًا لكثير من آي القرآنِ الكريم، وتوضيح معانيها بتفصيل، كالآيات التي تحدَّثت عن الغزوات في سورة آل عمران…
وبهذا يظهر صدق كلام الخطيب البغدادي حين قال: “تتعلَّقُ بمغازِي رسُولِ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أحكامٌ كثيرةٌ، فيَجِبُ كَتْبُها والحِفْظُ لها”.
نعم؛ يجب كتابةُ السِّيرة النبويَّة وحِفظها والاهتمامُ بها ودراستُها بعنايةٍ فائقةٍ، لكن وَفقَ منهج علميٍّ رَصينٍ كما يقرِّره علماء الحديث والسنة المعتد بهم؛ والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *