عرفنا في المقال السابق أنه يجب اجتناب الاصطلاحات التي فيها إجمال، نظرا لما يترتب عن استعمالها من التباس للحق بالباطل، ومن ذلك مثلا استعمال المتكلمين للفظ الجسم والجهة في حق الله تعالى، فأهل السنة لا يستعملون هذه الألفاظ المحدثة لا نفيا ولا إثباتا، وإنما يستعملون في حق الله تعالى الألفاظ الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية.
لكن ماذا لو ابتلينا بقوم يستعملون تلك الألفاظ المشتبهة؟!
فالجواب أننا حينئذ بين أحد خيارين:
أ- الخيار الأول: أن نقول لهم: هذه الألفاظ مبتدعة، ونمتنع عن التكلم معهم بها، فنغلق بذلك باب المحاورة معهم.
ب- الخيار الثاني: أن نستفصلهم عن المراد بتلك الألفاظ، فإن فسروها بمعنى موافق للكتاب والسنة قبل المعنى، وإن فسروها بمعنى مخالف للكتاب والسنة رُدّ، وأما الألفاظ فإننا لا نقرها، ويكون استعمالنا لها في مخاطبتهم من باب التنـزل معهم في المناظرة، وليس إقرارا لها.
قال شيخ الإسلام: “وإذا كانت هذه الألفاظ مجملة -كما ذكرـ فالمخاطب لهم إما أن يفصل، ويقول: ما تريدون بهذه الألفاظ؟ فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قبلت؛ وإن فسروها بخلاف ذلك ردت؛ وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتا، فإن امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسبونه إلى العجز والانقطاع، وإن تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقا وباطلا، وأوهموا الجهال باصطلاحهم أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينـزه الله عنها” .
ثم بين شيخ الإسلام أن الخيار المناسب يختلف بحسب المقام وما تقتضيه المصلحة.
فقال رحمه الله: “..وبالجملة: فالخطاب له مقامات: فإن كان الإنسان في مقام دفع من يلزمه، ويأمره ببدعة؛ ويدعوه إليها؛ أمكنه الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يقول: لا أجيبك إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله، بل هذا هو الواجب مطلقا…
وأما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره، والبيان له، وفي مقام النظر أيضا، فعليه أن يعتصم أيضا بالكتاب والسنة، ويدعوا إلى ذلك، وله أن يتكلم مع ذلك، ويبين الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية، والأمثال المضروبة، فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة…
وإذا كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضه بالعقل، وادعى أن العقل يعارض النصوص؛ فإنه قد يحتاج إلي حل شبهته، وبيان بطلانها، فإذا أخذ النافي يذكر ألفاظا مجملة، مثل أن يقول: لو كان فوق العرش لكان جسما، أو لكان مركبا، وهو منـزه عن ذلك. ولو كان له علم وقدرة؛ لكان جسما، وكان مركبا، وهو منزه عن ذلك. ولو خلق، واستوى، وأتى؛ لكان تحله الحوادث، وهو منزه عن ذلك. ولو قامت به الصفات؛ لحلته الأعراض، وهو منـزه عن ذلك. فهنا يستفصل السائل ويقول له: ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة؟ فإن أراد بها حقا وباطلا قبل الحق ورد الباطل…” .
فظهر بهذا أن شيخ الإسلام يرجح خيار التعبير بهذه الألفاظ في مقام مناظرة الخصم، ولهذا لم يثبت عنه -رحمه الله- أنه استعمل هذه الألفاظ عند تقريره لعقيدة أهل السنة في العقيدة الواسطية وغيرها، وذلك لأنه حينئذ في المقام الثاني مقام الدعوة والبيان للسائل والمتعلم.
وظهر من كلامه السابق أنه رجح استعمال تلك الألفاظ في مقام مناظرة المتكلمين حتى لا يُنسب المحاور لهم للعجز في المناظرة، كما يدل على ذلك قوله: “..وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتا، فإن امتنع عن التكلم بها معهم؛ فقد ينسبونه إلى العجز والانقطاع”.
وهذا الخيار الذي اختاره شيخ الإسلام في مقام المناظرة هو ما عبر عنه الشيخ العثيمين بقوله: “…ولكن مع ذلك إذا ابتلينا بشخص يتكلم في ذلك ليتوصل به إلى نفي ما أخبر الله به عن نفسه فماذا نعمل؟
هل ندعه أو ننـزل الميدان لنخوض المعركة، يجب علينا أن ننزل الميدان لنخوض المعركة.
أما أن نقول -والله- هذا ما ورد في الكتاب والسنة (وبس) فقد لا يكفي. نحتاج إلى أن ننزل معه فنقول ماذا تريد بالجهة… إذا قال المبطلون مثلا أو المبتدعون: نحن لا نؤمن بأن الله عال بذاته لأنه يلزم أن يكون جهة أو أن يكون في جهة؟ ما موقفنا نحن من هذا؟ هل يجب علينا أن نؤمن بالجهة؟ أو ننكر الجهة؟ أو ماذا نصنع؟ نقول: الجهة في الحقيقة بالنسبة لله تشتمل على حق وباطل. فيجب أن نفصل، ماذا تريد بالجهة؟ إن أراد معنى يليق بالله سبحانه وتعالى، ولا ينافي كماله، حينئذ نقبل المعنى، نقبل المعنى فقط، وأما اللفظ (نخليه) بالرفض، لا نثبته ولا ننفيه، (ليش) لأنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة نفيه ولا إثباته، لكن هم أتوا بهذا؛ ليتوصلوا إلى نفي ما أثبته الله لنفسه من العلو، وجعلوا يقولون جهة، وما أشبه ذلك…” .
فالواجب هو ترك استعمال تلك الألفاظ نظرا لأنها تحتمل معان باطلة وأخرى صحيحة، هذا من جهة اللفظ، وأما من جهة المعنى فيستفسر من أطلقها عن مراده منها، فإن أراد حقا قبل، وإن أراد باطلا رد، وهذا هو الذي قصده شيخ الإسلام بقوله: “فإذا عرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات ووزنت بالكتاب والسنة: بحيث يثبت الحق الذي أثبته الكتاب والسنة، وينفي الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة كان ذلك هو الحق؛ بخلاف ما سلكه أهل الأهواء من التكلم بهذه الألفاظ: نفيا وإثباتا في الوسائل والمسائل؛ من غير بيان التفصيل والتقسيم الذي هو الصراط المستقيم” .
وهذا الكلام لا يتعارض مع قول شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر: “..فأما إذا عرفت المعاني الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة، وعُبِّرَ عنها لمن يفهم بهذه الألفاظ؛ ليتبين ما وافق الحق من معاني هؤلاء وما خالفه فهذا عظيم المنفعة” وهو من الحكم بالكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه” .
فمراد شيخ الإسلام بالتعبير بهذه الألفاظ لمن يفهم، هو استعمالها عند الاستفصال عن المعنى المراد بها، فنقول مثلا: إن أردتم بلفظ الجهة كذا (المعنى الصحيح) فهو حق، وإن أردتم بالجهة كذا (المعنى الباطل) فهو باطل. ويكون استعمالنا للفظ الجهة من باب التنـزل في المناظرة، وليس إقرارا للفظ.
وليس مراد شيخ الإسلام باستعمال هذه الألفاظ مع من يفهمها قبولها وإقرارها، وإنما مقصوده التعبير بها من أجل بيان ما فيها من الحق والباطل، ولذلك قال في سياق كلامه: “ليتبين ما وافق الحق من معاني هؤلاء وما خالفه”، وزاد الأمر توضيحا فقال في وصف هذا البيان: “وهو من الحكم بالكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه”، أي إن استعمال هذه الألفاظ لبيان ما فيها من الحق فيقبل، وبيان ما فيها من الباطل فيرد، يعتبر من الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
فهذا الاستعمال -كما تقدم- ليس إقرارا لهذه الألفاظ، وإنما هو من باب التنـزل في الخطاب مع أهل ذلك الاصطلاح، يتوصل به إلى بيان المعاني الصحيحة لهم بغض النظر عن الألفاظ الموهمة التي استعملوها، وذلك لأنهم وضعوا مصطلحات قد نعجز عن إفهامهم بدونها، أو إقناعهم بتركها، مما يدعونا إلى استعمالها معهم -تنـزلا- لتصحيح المعاني الباطلة لما عجزنا عن إقناعهم بترك الألفاظ الموهمة.
وأما في غير هذا المقام فإننا لا نستعمل تلك الألفاظ لا نفيا ولا إثباتا، لأنها ألفاظ تحتمل حقا وباطلا، فنخشى إن نحن أثبتناها أن نقر ما تحتمله من المعاني الباطلة، كما نخشى إن نحن نفيناها أن ننكر ما تحتمله من المعاني الصحيحة.
ويدل على أن شيخ الإسلام إنما يجيز استعمال تلك الألفاظ في باب المحاورة للمستعملين لها، قوله بعد ذكره لخيار الاستفصال في مقام المناظرة والمحاورة للخصم:
“…وقد يقع في محاورته إطلاق هذه الألفاظ لأجل اصطلاح ذلك النافي ولغته، وإن كان المُطْلِقُ لها لا يستجيز إطلاقها في غير هذا المقام” .
وبناء على ما تقدم فمن أراد أن يقيس لفظ “الديمقراطية” على تلك الألفاظ المجملة، فعليه أن يقصر استعمال هذا اللفظ في مقام المناظرة للخصم من باب التنـزل معه عند الاستفصال، فيقول له: إن كنت تقصد بـ”الديمقراطية” العدل، فإن العدل مطلوب شرعا، وإن كنت تقصد بـ”الديمقراطية” تحكيم الشعب، وتعطيل الشرع، فإن ذلك مرفوض شرعا. ولا يجوز استعمال هذا اللفظ في غير هذا المقام. والله أعلم.