إحياء القبورية في المغرب دراسات ميدانية ووقفات تحليلية محمد القريفي

كنا نعتقد أن زمن القبورية ولى وانقضى، أو على الأقل هو في طريقه إلى الانقراض، بفعل جهود دعاة التوحيد، الذين لطالما حذروا الناس من مخاطر الشرك وبينوا أثره السيئ على الفرد والمجتمع، وقد أثمرت جهود العلماء الربانيين ثمارا يانعة تجسدت في إقلاع كثير من الناس عن كل ما يخدش عقيدة التوحيد، وقد شهد المغرب كغيره من بلدان العالم الإسلامي، صحوة ويقظة ما زلنا نتفيأ ظلالها، واستفاق عموم المغاربة من غفلتهم وسباتهم، وتبين لكل ذي عينين أن المعبود بحق المستحق لجميع أنواع العبادات هو الله الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد.

القائل سبحانه: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} الأنعام، والقائل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ}سبأ، والقائل: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الأنعام، والقائل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}.

وزارة الأوقاف المغربية تكرس المخالفات العقدية عبر إحياء المواسم والأضرحة الشركية
غير أن هذه الصحوة السلفية المباركة سرعان ما تعرضت لردة فعل مضادة من لدن أناس ما زالوا يحنون إلى الماضي البدعي، يرفضون أي تغيير يمس معتقداتهم البدعية في الصميم، ومما يؤسف له أن من تحمل كبر حرب هذه الصحوة وشن الغارات عليها أناس هم من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، والمصيبة العظمى أن بعضهم ممن ينتسب للحقل الديني ويقف على رئاسة الهرم الديني في المغرب (أعني وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية)، التي ما فتئت تكرس المخالفات العقدية المتنوعة؛ عبر إنعاش الأضرحة والمواسم الشركية والسهر على إحيائها بعدما كادت تندثر، وفي الوقت الذي لا تتردد في استصدار قرار إغلاق دور القرآن -مع أن هذه الأخيرة قدمت خدمات جليلة للمواطنين أعظمها إسهامها الجلي في انتشالهم من مستنقعات الشرك والخرافة والجهل- فإن الوزارة الوصية لازالت تشجع الأضرحة والمواسم، بل إنها تعتبرها مثل المساجد والزوايا والمدارس العتيقة فضاءات ومؤسسات تابعة لها، تخضع لوصايتها وللتنظيم الداخلي لهيكلها ومصالحها، حيث تسهر مثلا مصلحة تسيير الأملاك الوقفية بالوزارة بمراقبة جميع الأضرحة الموجودة بالمغرب، وتهتم مصلحة الأعمال الاجتماعية بشؤونها وبالمواسم والتظاهرات “الدينية” التي تقام في فضاءات هذه الأضرحة.

انتعاش الأضرحة وإقبال المغاربة عليها
وهكذا أصبحنا نرى ونسمع في الآونة الأخيرة، بأن الأضرحة في المغرب أخذت تشهد تدفقا لمختلف فئات المجتمع المغربي بشكل خاص في المواسم ذات الطابع “الديني”؛ طلبا للبركة وتحقيق الأمنيات، أو حتى حل المشكلات النفسية والاجتماعية والجنسية، بل إن البعض يعتقد أن كل ضريح يسهم في حل نوع معين من المشكلات والصعوبات التي تواجههم.
ومن بين المقابر التي تشهد ازدحاما شديدا “ضريح سيدي رحال البودالي”، “ضريح سيدي بليوط” و”ضريح بويا عمر” و”ضريح للاّ عيشة البحرية”، “ضريح بوشعيب الرداد”، و”ضريح سيدي يحى بن يونس” و”ضريح سيدي ميمون” و”ضريح أبو العباس السبتي”، و”ضريح سيدي عبد العزيز التباع”.. والقائمة طويلة، حيث تحرص أعداد كبيرة من السيدات والفتيات على زيارتها للتمسح بها والدعاء والتبرك.
ولا تقتصر الزيارات على أضرحة الشخصيات المشهورة، بل تمتد أيضا إلى أسماء غير معروفة، مثل “ضريح للاّ يطو” و”ضريح سيدي عبد الله غياث” و”ضريح عبد الخالق بن ياسين”..، وامتدت تلك الظاهرة من النساء والمواطنين العاديين إلى الفئات المثقفة في المجتمع المغربي وطلبة الجامعات وبعض الأساتذة.
طبعا نحن لا نحمل وزارة الأوقاف وحدها مسؤولية إنعاش هذه المظاهر الخرافية بالمغرب، فثمة أطراف عديدة متواطئة بشكل أو بآخر بالدعاية المجانية للأضرحة، ومن ضمن هذه الأطراف ما يسمى بالاختصاصيين النفسانيين سيما أولئك الذين قلت بضاعتهم من العلم الشرعي، فصار بعضهم يساهم في الترويج لخرافات القبوريين، وعوض أن يتخذوا موقفا صارما ضد زيارة الأضرحة ويحذروا مرضاهم من مغبة الذهاب إليها، لأنها تورطهم في السقوط في وحل الشركيات، على النقيض من ذلك فإنهم يشجعون استمرار مثل هذه العادات، على اعتبار أن المريض حين يذهب إلى الضريح يلجأ إليه بثقة عمياء، وبانقياد تام وهو ما يسميه المغاربة “التسليم” أو “النية”، ويسميه الاختصاصيون النفسانيون العلاج بالإيحاء، والثقة هنا لها دور في التخفيف من الضغط النفسي على أي زائر للضريح على حد زعمهم.
والسؤال الذي نود طرحه في هذه المجال على المجالس العلمية التي تشرف على تأطير الحقل الديني المغربي، خاصة أن كثيرا من الناس اختلطت عليهم الأوراق بفعل الصمت المطبق الذي أمسى مألوفا لدى علماء يدعون الانتساب للمذهب المالكي.
ما موقف الشرع من الأضرحة وما يمارس فيها من انتهاكات صريحة لحقوق الرحمن؟
وللإجابة عن هذا التساؤل المشروع، لن نحتج بكلام أحد العلماء المشارقة، مراعاة لمشاعر أولئك الذين لديهم حساسية مفرطة ضد كل ما هو شرقي، وانبهارا وإعجابا بكل ما هو غربي. وفي انتظار فتوى اللجنة الدائمة المغربية، نضع أمام القارئ المغربي الذي يتحرق شوقا لمعرفة موقف علماء بلده من هذه الظاهرة، كلام أحد العلماء المغاربة المعتبرين الذين يَلقون القبول من جميع الأطراف ويتعلق الأمر بالعلامة المكي الناصري رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
العلامة المغربي المكي الناصري يبطل القبورية
شنع العلامة المكي الناصري رئيس المجلس العلمي بالرباط ووزير الأوقاف سابقا على المبالغين في تعظيم القبور والأضرحة، فقال في كتابه إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة (ص 19¬20):
“فمنهم الذين اتخذوا القبور حرمات ومعابد، فبنوا عليها المساجد وزخرفوها بما يجاوز حد السرف بمراتب، واصطلحوا فيها على بناء النواويس واتخاذ الدرابيز والكسا المذهبة وتعليق الستور والأثاث النفيسة وتزويق الحيطان وتنميقها، وإيقاد السرج فوق تلك القبور ككنائس النصارى، وسوق الذبائح إليها، وإراقة الدماء على جدرانها، والتمسح بها وحمل ترابها تبركا والسجود لها وتقبيلها، واستلام أركانها والطواف حولها، والنذر لأهلها وتعليق الآمال بهم، والتوسل إليهم بالله ليقضوا لسائليهم الحوائج، كما يزعمون فيقولون عند زيارتهم: (قدمت لك وجه الله يا سيدي فلان، إلا ما قضيت لي حاجتي)، جاعلين الحق سبحانه وتعالى وسيلة تقدم إلى أولئك المقبورين للتوصل إلى نيل أغراضهم.
مع أن الميت قد انقطع عمله، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فكيف لمن استغاث به أو سأله قضاء حاجته أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، واستعانة ذلك الميت وسؤاله لم يجعلهما سببا لإذنه، وإنما السبب في إذنه كمال التوحيد فجاء هذا بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، على أن الميت محتاج إلى من يدعو له ويترحم عليه، ويستغفر له، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس أولئك القبوريون هذا وزاروهم زيارة العبادة لقضاء الحوائج والاستعانة بهم، وجعلوا قبورهم قريبة من أن تصير أوثانا تعبد، وقد شاع هذا بين المسلمين وذاع، وعم كل ما يستوطنون به من البقاع”. (نقلا عن كتاب علماء المغرب ومقاومتهم للبدع والتصوف والقبورية والمواسم، ص:103،104 للأستاذ مصطفى باحو، منشورات :جريدة السبيل).
وإسهاما منا في علاج هذا الداء الوبيل -تقديس القبور والأضرحة- ارتأت جريدة السبيل أن تقوم بتحقيقات ميدانية تنقل عن كثب ومن عين المكان المظاهر الشركية التي يعج بها مغربنا الحبيب، محاولة منها لإنقاد أولئك التائهين في دروب الخرافة والوهم.
وعليه سيكون عنوان موضوع الحلقة الأولى القادمة -إن شاء الله- هو: مشاهداتي في ضريح بويا عمر.
وصل اللهم على محمد وآله وصحبه وسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *