وقفات مع «مؤمنون بلا حدود»
يعمد بعض الكتاب (الحداثيين!!) في مؤسسة (مؤمنون بلا حدود) إلى أنواع من التضليل النظري عمدا أو جهلا… بحيث لا ينتبه القارئ أحيانا إلى أنه يتعرض لعملية توجيه قسري على نحو سخيف. وهذا ما حاوله الكاتب محمد المصباحي في مقالة له بعنوان: (بين السلفية المستنيرة والسلفية المتزمتة)، حاول فيها التفريق بين مجتمعين، والجمع بين متفرقين…بطريقة سخيفة وباردة…!
بدأ الكاتب بمحاولة الفصل المضموني بين (السلفية) وبين (العقل) و(الاستنارة)، زاعما وجود تنافر وتضاد موضوعي وتاريخي بينهما، ثم عرض وجهة نظر عجيبة للجمع بينهما في نوع من (المفاوضة الفكرية)، بحيث اقترح إحداث [تعديلات دلالية جذرية على لفظة (السلفية) كيما تغدو قابلة للتفاعل والانفعال مع ضدها (لفظة الاستنارة)] ثم جعل هذا في مقابل الجمع بينهما باعتبار المجاز فقط!!!
وعلى هذا ملاحظتان:
الأولى: أنه لا حق له في اختيار الجهة التي ينبغي إجراء تعديلات دلالية عليها، وليس مصطلح (العقل) و(الاستنارة) بالمعصومين من ذلك، فلو قيل: الأولى إجراء تعديلات دلالية جذرية على كلمة (الاستنارة) و(العقل) لكان مقبولا ومعقولا.. والسبب في ذلك أن مفهوم العقل عند هؤلاء غير محدد المضمون.. فقد اختلفوا في تحديد معالمه بل وحقيقته وتجلياته بما يفاجئ القارئ لو وقف عليه…
الثانية: أنه لابد أولا من تحقيق هذا التعارض المزعوم…بالدليل الاستقرائي بالوصف والتحليل.. لأن دعوى التعارض ينبغي أن تكون نتيجة لا مقدمة.. فقبح الله المصادرة!
وبعد هذا المدخل الفاسد الذي وطأ به الكاتب لمقالته شرع في مقصوده الأساس وهو الإنكار على (السلفية الحنبلية) معاداتها للعلم طبا وحسابا وفلكا… في زعمه؛ واعتمد في ذلك على ما ذكره ابن رجب الحنبلي في كتابه (فضل علم السلف على الخلف)، والذي أخطأ الكاتب في اسمه فكتبه في الهامش عند أول إحالة إليه:( بيان فضل علم الخلف على السلف) وكأنه خطأ كاشف عن مقصوده من المقال.. ربما…!
فهل فعلا تعادي السلفية حنبلية كانت أو مالكية أو شافعية أو حنفية هذه العلوم؟
وما الذي جعل الكاتب يزعم ذلك؟
وهل تسعفه النصوص التي استمدها من هذا الكتاب.. وهل كان في نقله منصفا أمينا؟
وهل كانت رؤيته التحليلية رؤية استقرائية أو انتقائية؟
لن أوسع عليه دائرة النقد؛ وسأكتفي بما سماه (السلفية الحنبلية)، وإلا فالسلفية لا تعرف مذهبا، وربطها بالحنابلة خطأ تاريخي ومنهجي، فكثير من فضلاء المالكية والشافعية والحنفية كانوا سلفيين، بل إن الإمام مالكا والشافعي وأحمد يصنفون إلى الآن من المدرسة الحديثية السلفية، وما فعله الكاتب يدل على عدم احترافية في قراءة التاريخ وضعف كبير في الدراسات المتعلقة بالفرق ومذاهبها ومقالاتها.
سأكتفي بـ(السلفية الحنبلية)، لأنه سيسهل علي المحاورة العلمية.. وإلا فلو وجدت وقتا لكان الأمر أشمل وأعم.. ولكن المشاغل كثيرة. وقد استنكر الكاتب على (السلفية الحنبلية) عداءها للعلوم في موضعين:
الموضع الأول: زعمه أن السلفية الحنبلية تقسم العلم إلى علم نافع، وهو العلم المتلقى كتابا أو سنة، وما كان عليه السلف، وإلى علم غير نافع وهو [العلم النابع من ذات الإنسان] كما هي عبارته، وزعمه…!
عرض الكاتب موقف بعض الحنابلة من العلوم العقلية في صورة مشوهة، ليبدي هؤلاء الحنابلة أعداء للعقل ومنتجاته… أعداء للعلوم العقلية كالحساب والفلك والتجريبية كالطب.. ثم خلطها بما كان من العلوم الدينية المنقوعة في العقل.. كعلم الكلام والتصوف.. وما كان بينهما كعلم الأنساب والعربية -كذا قال- بعد استعراض جملة من نصوص (السلفية الحنبلية)، وخلاصة ما انتهيت إليه بعد تفحص لما كتبه أنه كان يخلط ويخبط…وهذا بيان سبب ذلك.
حينما يتحدث علماء السلف عن تقسيم العلم إلى علم نافع وعلم غير نافع، فإنما يتحدثون عن تقسيم في سياق الحديث عن المباحث الشرعية عقيدة وفقها، وعن التوظيف الديني لا عن التوظيف الدنيوي، وعدم الانتباه لهذا سينتج عنه حكم مشوه بالعاهات المنهجية.
فليس بين السلف والتوظيف الدنيوي للعلوم العقلية أي مشكلة، إذ مذاهبهم مصرحة بتصحيحها والتنويه بها، بل وممارستها وتدريسها… والعجيب أن الكاتب نفسه ذكر إنكار العلماء استعمال بعض العلوم العقلية في حل القضايا الشرعية، ولم يكن هذا قصده من العيب على (السلفية الحنبلية) فقط؛ بل كان قصده اتهامها بمعاداة استعمال العلوم العقلية مطلقا سواء تعلق الأمر بالتوظيف الشرعي الديني أو الدنيوي، وسأناقشه في التوظيفين.
وسآخذ على هذا مثالا واحدا من المدرسة (السلفية الحنبلية) مراعاة لمطابقة مقتضى مقال الكاتب وهو: ابن تيمية الحنبلي! الذي يقول في الرد على المنطقيين (ص:255): (كان كثير من علماء السنة يرغب في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة كالجبر والمقابلة وعويص الفرائض والوصايا والدور لشحذ الذهن فإنه علم صحيح في نفسه).
فجعل النظر في تلك العلوم لشحذ الذهن صحيحا في نفسه، بل صرح بأن بعض أهل السنة يتعاطاها..! فأين المعاداة المزعومة للعلوم العقلية…الدقيقة…كالحساب؟!
وقال في (الفتاوى الكبرى/1/396/دار المعرفة): (فأما الحساب وهو معرفة أقدار الأفلاك والكواكب وصفاتها ومقادير حركاتها وما يتبع ذلك فهذا في الأصل علم صحيح لا ريب فيه كمعرفة الأرض وصفتها ونحو ذلك) فلاحظ قوله: (فهذا في الأصل علم صحيح لا ريب فيه) فأين المعاداة المزعومة للحساب؟!
وكلام ابن تيمية رحمه الله صريح في عدم معاداة (السلفية الحنبلية للعلوم العقلية) وما قد يوهم غير هذا فله وجهة أخرى.
يقسم ابن تيمية العلوم إلى قسمين:
القسم الأول: علوم نبوية أو أخروية أو معارف دينية.
القسم الثاني: علوم لها تعلق بالأمور الدنيوية كالطب والحساب.
ولذلك تجده يقول في الجواب الصحيح (6/22) وهو يتحدث عن المسلمين ومنهم (السلفية الحنبلية!!): (فأما العلوم فهم أحذق في جميع العلوم من جميع الأمم، حتى العلوم التي ليست بنبوية ولا أخروية، كعلم الطب مثلا والحساب ونحو ذلك، هم أحذق فيها من الأمتين، ومصنفاتهم فيها أكمل من مصنفات الأمتين، بل أحسن علما وبيانا لها من الأولين الذين كانت هي غاية علمهم).
وقال في (الفتاوى/13/136): (قد يكون علم من غير الرسول؛ لكن في أمور دنيوية مثل الطب والحساب والفلاحة والتجارة. وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية، فهذه.. العِلْمُ فيها مأخذه عن الرسول) ولا أظن أحدا يعقب على هذا الكلام!
بل إنه لا يرى في أخذ مثل هذه العلوم عن من ثبتت مخالفته للإسلام وأصوله.. وهذا أبعد ما يمكن ذكره لبيان افتراء الكاتب على (السلفية الحنبلية)، يقول ابن تيمية في الفتاوى (4/114): (ذكر ما لا يتعلق بالدين، مثل مسائل الطب والحساب المحض التي يذكرون فيها ذلك، وكتب من أخذ عنهم مثل: محمد بن زكريا الرازي وابن سينا ونحوهما من الزنادقة الأطباء ما غايته: انتفاع بآثار الكفار والمنافقين في أمور الدنيا فهذا جائز)، فأخذ مثل هذه العلوم الدنيوية عن أهل الكفر والزندقة …جائز عند ابن تيمية الحنبلي.
بل يجعل أخذ ذلك عنهم أحسن.. فإنه قال في الفتاوى (4/114): (أخذ علم الطب من كتبهم مثل الاستدلال بالكافر على الطريق واستطبابه، بل هذا أحسن، لأن كتبهم لم يكتبوها لمعين من المسلمين حتى تدخل فيها الخيانة). فأين معاداة السلفية الحنبلية للطب والحساب وعلوم الفلاحة…!؟
حسبي الله ونعم الوكيل.
أما الموضع الثاني فالعلوم الدينية المنقوعة في العقل، أو التوظيف الديني للعلوم العقلية، أو توظيف العلوم العقلية في المباحث الإلهية والدينية والشرعية، وهي التي ينهى عنها أهل السنة… وهو أمر استنكره عليهم الكاتب معتبرا ذلك نوعا من (معاداة العلوم العقلية).
حينما يتحدث العلماء عن علم نافع وعلم غير نافع فهم يقصدون كما سبق وذكرته النفع وعدمه باعتبار التوظيف في المسائل الدينية، ولهم في ذلك مسوغاتهم وتعليلاتهم، وليس من بينها أبدا نفي النفع مطلقا عن العلوم العقلية، فعدم نفعها عندهم مخصوص بالمباحث الدينية لا المباحث الطبيعية، وسآخذ ابن تيمية مرة أخرى نموذجا لكونه أحد كبار منظري (السلفية الحنبلية).
يقول ابن تيمية في الفتاوى (9/215): (قد بينا أن شريعة الإسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شيء يتعلم من غير المسلمين أصلا، وإن كان طريقًا صحيحًا، بل طرق الجبر والمقابلة فيها تطويل، يغني الله عنه بغيره كما ذكرنا في المنطق.
وهكذا كل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، مثل العلم بجهة القبلة، والعلم بمواقيت الصلاة، والعلم بطلوع الفجر والعلم بالهلال، فكل هذا يمكن العلم به بالطرق التي كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يسلكونها ولا يحتاجون معها إلى شيء آخر. وإن كان كثير من الناس قد أحدثوا طرقًا أخرى. وكثير منهم يظن أنه لا يمكن معرفة الشريعة إلا بها. وهذا من جهلهم، كما يظن طائفة من الناس أن العلم بالقبلة لا يمكن إلا بمعرفة أطوال البلاد وعروضها، وهو وإن كان علما صحيحًا حسابيًا يعرف بالعقل، لكن معرفة المسلمين بقبلتهم ليست موقوفة على هذا).
بين ابن تيمية بهذا الكلام:
-أن الطرق الحسابية مثلا طرق صحيحة في نفسها.
-أن العلم ببعض الأمور التي تتعلق بها أحكام شرعية يكتفى فيها بطريقة الشريعة الموحى بها، والتي خبرها الصحابة رضي الله عنهم واستعملوها.
-أن بعض الأحكام الشرعية مستغنية عن توظيف العلوم العقلية والحسابية فيها، بسبب أنها تكلف وتطويل، واستعمالها فيها مخالف لمقاصد التشريع الإسلامي في التيسير عند فهم الخطاب والعمل بمقتضاه، وهذا هو علة جعل السلف لها غير نافعة في بعض الشرعيات…!
وأما في العقائد فالأمر أشد، فالنهي عن توظيف بعض العلوم العقلية فيها راجع إلى عدم أهليتها لذلك، لقصورها عن إدراك المعارف الإلهية قوة وفعلا.. ومن ذلك الفلسفة والمنطق، وقد بين ابن تيمية ذلك في (الرد على المنطقيين) و(نقض المنطق) وفي (درء تعارض العقل والنقل) وقال في الفرقان:
(العلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول. وقد يكون علم من غير الرسول؛ لكن في أمور دنيوية، مثل الطب والحساب والفلاحة والتجارة. وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية فهذه العلم فيها مأخذه عن الرسول، فالرسول أعلم الخلق بها وأرغبهم في تعريف الخلق بها وأقدرهم على بيانها وتعريفها فهو فوق كل أحد في العلم والقدرة والإرادة وهذه الثلاثة بها يتم المقصود).
فالعلم النافع في الإلهيات هو ما جاء به الرسل، لا ما ابتدعته العقول، سواء عقول علماء الكلام أو الفلاسفة، والعلوم الدنيوية قد تكون نافعة، وقد تكون ضارة في أصلها أو نتائجها، فالأمر بحسبه…وليست أسلحة الدمار الشامل ببعيدة عن موضوعنا.
وقبل أن أنهي كلامي أود تنبيه القارئ إلى أن كلام المتقدمين من الفلاسفة في بعض تلك العلوم كان عن علوم غير ناضجة، فيها كثير من الخبط وعدم التحقيق؛ بل وبعض الخرافات والحماقات، كقول فلاسفة اليونان في الأفلاك التسعة ومنازل العقول معها…!!! فلا ينزل كلامهم على العلوم بما هي عليه اليوم… والله المستعان.