صفحة مشرقة من تاريخ الإسلام في مواجهة الغزو الخارجي فتح الإسلام أرضا جديدة

تكشف حركة التاريخ الإسلامي عن ظاهرة بعيدة المدى على طول مراسه، هي التي أكسبت الإسلام النصر في مجال النكسة وتوسيع نطاقه حين تحاول القوى الأجنبية الانتقاص منه، وامتداد ظلاله إلى شعوب جديدة حين تنكسر قواه وتلحقه الهزيمة أو الضعف في أحد مراكزه.
وفي مرحلة الغزو الخارجي واجه عالم الإسلام هجوما ثلاثيا قويا:
1) هجوم الصليبيين في حملاتهم المتوالية التي لم تتوقف.
2) هجوم الفرنجة والإسبانيين على الأندلس وشواطئ المغرب.
3) هجوم التتار والمغول في زحوفهم الضخمة.
ولقد كان وقع سقوط بغداد في قبضة الغزو المغولي بالغ الأثر في المجتمع الإسلامي كله، فقد زلزل النفوس وأصابها بالاضطراب والتشاؤم وأضفى على المسلمين روحا من اليأس القاتل، فقد خيل للناس من ضخامة وقع الحدث وعمق الضربة، أن الإسلام قد انتهى حتى أن مؤرخا كبيرا هو “ابن الأثير” ظل معرضا عن ذكر الحادثة بضع عشرة سنة، بل لقد كان وقع سقوط بغداد أكثر دويا وأخطر أثرا في النفوس من الحملات الصليبية، ذلك أنها كانت تمثل ضربة رئيسية موجهة إلى مركز القيادة السياسية لعالم الإسلام وقاعدته بالرغم مما منيت به القاعدة من الضعف وما بلغته من الانكماش والتضاؤل في نفوذها الحقيقي.
غير أن النظرة الأوسع تكشف عن حقيقة عجيبة، هي أنه في نفس العام (656هـ) الذي سقطت فيه بغداد: مركز القيادة السياسية الإسلامية في يد المغول في نفس هذا العام غزا الإسلام واحدة من أضخم قبائل التتار هي قبيلة بركة خان وفتح طريقه بالسيطرة على عقول “الكوب” هذه القوة العاتية التي كانت قد هزت العالم كله وزلزلت قواعده منذ أربعين عاما قبل فتح بغداد، وكانت موضع تطلعات الغرب الطامع في أن يضمها إلى دينه وثقافته ليجعل منها إحدى فكي الكماشة في الإطباق على عالم الإسلام، غير أن ذلك لم يتحقق، فقد كان “دعاة الإسلام” البسطاء أقدر على كسب “أيلخانات” المغول من حملات التبشير الغربية.
ويرى توماس أرنولد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) أنه ليس في تاريخ العالم نظير لهذه المعركة الحامية التي قامت بين البوذية والمسيحية والإسلام حيث كل ديانة تنافس الأخرى لتكسب قلوب أولئك الفاتحين القساة.. غير أن ظهور الخلافات بين المسيحية من اللاتين والإغريق والنسطوريين والأرمن وامتدادها إلى وسط معسكر المغول ذاته قد جعل الأمل ضئيلا في إحراز نجاح أكبر..
وقد تحطمت كل الخطط عندما دخل بركة خان وقبيلته في الإسلام ثم تحالف مع الظاهر بيبرس سلطان المماليك وكان بركة خان (1256-1267م) أول من أسلم من أمراء المغول، وكان رئيسا للقبيلة الذهبية في روسيا، غير أن تحالف هولاكو مع القوات المسيحية في الشرق كملك أرمنية والصليبيين، ربما قد حجب الأمل في انتشار الإسلام بين المغول قليلا، وكان ابن هولاكو (أباقا خان) قد تزوج من ابنة إمبراطور القسطنطينية، وكان يرسل السفراء إلى القديس لويس ملك فرنسا وشارل ملك صقلية، وجيمس ملك أرغونة يطلب إليهم التحالف معه على المسلمين، غير أن ذلك لم يحقق نتيجة ما على النحو الذي كان يرجوه ملوك أوروبا، فإن أخوه “تكوادر” 681هـ/1282م الذي اعتلى العرش من بعده، كان قد اعتنق الإسلام منذ صباه عن طريق اتصاله بالمسلمين، فلما تولى السلطة رغب في تحويل كافة التتار إلى الإسلام، وأرسل نبأ إسلامه إلى سلطان المماليك في مصر “قلاوون” قال في رسالته:
“لقد ابتدأنا بتوفيق الله بإعلاء الدين وإظهاره، وفي إيراد كل أمر وإصداره تعدي لناموسي الشرع المحمدي على مقتضى قانون العدل الأحمدي إجلالا وتعظيما، إن الإسلام يجبُّ ما قبله، وإنه تعالى ألقى في قلوبنا أن نتبع الحق وأهله، عفا الله عما سلف وتقدمنا بإصلاح أمور المساجد والمشاهد والمدارس، وعمارة بقاع الدين والربط الدوارس، وأمر بتعظيم أمر الحجاج وتجهيز وفدها وتأمين سبلها على تلك البلاد ليسافروا بحسب اختيارهم: توقيع “أحمد تكودار”.
وتوالى الأيلخانات المسلمين حتى كان أعظمهم شأنا “غازان” 695هـ/1295م سابع الأيلخانات الذي جعل الإسلام دين الدولة الرسمي في فارس، وتوالى الإسلام أمراء التتار وملوكهم، أسلم “طرما شيرين” ملك جفطاي 727هـ/1326م وتغلق تيمور خان ملك كاشفر 748هـ 1347م على يد الشيخ جمال الدين، وعندما تولى “تغلق تيمور” السلطة استقبل أمراء دولته وكان أولهم الأمير تولك وقال له الخان: ألا تدخل الإسلام، عند ذلك سالت عبرات الأمير وقال: قد دخلت في الإسلام منذ ثلاث سنين على يد أحد الدعاة في كاشفر وأصبحت مسلما منذ ذلك الحين، ولكني لم أصرح بذلك خوفا منك، وعرض الإسلام على سائر الأمراء فقبلوه جميعا، إلا واحدا، وفي هذا اليوم قص 160.000 رجلا شعورهم ودخلوا في الإسلام.
ولما تولى أوزبيك خان زعيم القبيلة الذهيبة السلطة عمل على تحويل كثير من الأهليين إلى الإسلام، وقد وضع خطة لنشره في كافة أرجاء بلاد روسيا وبالرغم من تحمسه لنشر الإسلام وتفانيه، كان كثير التسامح نحو رعاياه المسيحيين وقد منحهم الحرية التامة في إقامة شعائرهم من غير أن يتعرض لهم أحد بسوء وفي هذا يقول توماس أورنولي:
“إنه برغم من كل المصاعب أظهر هؤلاء المغول والقبائل المتبربرة آخر الأمر لدين هذه الشعوب التي ساموها الخسف وجعلوها في مواطئ أقدامهم، ولا بد أن يكون هناك كثير من أنصار النبي قد انتشروا في طول إمبراطورية المغول وعرضها مجاهدين في طي الخفاء لجذب غير المسلمين إلى حضارة الإسلام”.
كذلك حقق الإسلام توسعا ذاتيا في هذه المرحلة في قلوب الصليبيين أنفسهم، فإن روح الإسلام وعدالته التي لمسها الغربيون عن قرب، وما أدهشهم من شمائل نور الدين وصلاح الدين قد شدهم على الإسلام.
وقد أدى اختلاط علماء اللاهوت المسيحيين بالإسلام إلى تغير مفهومه عن المسلمين ودينهم، وبدا رأيهم أقرب إلى الإنصاف، بل لقد انجذب كثير منهم إلى حظيرة الإسلام.
يقول توماس أرنولد: “يظهر أن أخلاق صلاح الدين وحياته التي انطوت على البطولة قد أحدثت في أذهان المسيحيين في عصره تأثيرا سحريا خاصا حتى أن نفرا من الفرسان المسلمين قد بلغ من قوة انجذابهم إليه أنهم هجروا ديانتهم المسيحية وهجروا قومهم وانضموا للمسلمين. حتى أن صيغة القسم التي عرضها على القديس لويس أولئك المسلمون الذين أسروه حين طولب بأن يتعهد بأداء ما فرض عليه من الفدية 1250م كانت من إملاء بعض المسلمين الذين كانوا قسيسين من قبل، ثم اعتنقوا الإسلام حسب رواية جونفيل في تاريخه.
ويتصل بهذا أن المسلمين حين استعادوا سلطانهم على بيت المقدس بسطوا على المسلمين روح التسامح التي كانت من قبل، ومن المؤكد أن المسيحيين من أهالي هذه البلاد قد آثروا حكم المسلمين على حكم الصليبيين، ويظهر أن أهالي فلسطين من المسيحيين لما وقع بيت المقدس في أيدي المسلمين نهائيا 1244م رحبوا بالقادة الجدد واطمأنوا إليهم ورضوا بحكمهم، وقد دفع هذا الشعور كثيرا من مسيحيي آسيا الصغرى إلى الترحيب بمقدام السلاجقة باعتبارهم مخلصين لهم من الحكومة البزنطية البغيضة، لا لسبب نظام الضرائب المجحف وحده، ولكن لسبب روح الاضطهاد التي ظهرت بها الكنيسة الإغريقية (وذلك على حد رواية توماس أرنولد).
وقد انتشر الإسلام ذاتيا في آفاق أخرى، هي المغرب وشمال أفريقيا، وكان لتقبل البربر له أبعد الأثر في انتشاره في آفاق أفريقيا، ويرى المؤرخون أن ظهور المرابطين كان بعيد الأثر في انتشار الإسلام بوصفه حركة قومية عظيمة جذبت عددا كبيرا من قبائل البربر نحو الاندماج في الأمة الإسلامية على حد عبارة الدكتور حسن محمود، وقد ظهر في مستهل القرن الخامس “عبد الله بن ياسين” ذلك المعلم التقي الذي اكتشفه يحيى بن إبراهيم شيخ قبيلة صنهاجة، وكان مقدمة للنهضة الضخمة التي قادها من بعد يوسف بن تاشفين، فقد عمل عبد الله بن ياسين على نشر الإسلام في مختلف أنحاء قطاعات أفريقيا التي تعرف بالسودان، وقد بنى (رباطا) في جزيرة السنغال حيث كون مجموعة ضخمة من التلاميذ المدربين على الدعوة بلغ عددهم ألف شخص، ثم دفعهم إلى قبائلهم وعشائرهم، ثم زاول الدعوة في القبائل المجاورة، واستطاعت حركة (عبد الله بن ياسين) أن تحقق توسعا في قلب أفريقيا حيث أسلمت قبائل كبيرة من البربر الوثنية.
أنور الجندي- مجلة دعوة الحق
العدد التاسع والعاشر-السنة الحادية عشرة
جمادى الأولى 1388 غشت 1968

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *