اعتماد فتاوي العلماء..بين”تحقيق المناط”.. و(عدم الانضباط!)..رشيد مومن الإدريسي

من المقرر عند النُّظار أنه لا بد من حدوث وقائع لا نصوص شرعية على حكمها عينا، مما يدفع الناظر المؤهل لذلك من إرجاع الأمر إلى الأصول الشرعية والقواعد المرعية1، أو الاعتماد في خصوصه على الفتاوي العلمية،  وإلا فإن هذه الوقائع “إما أن يُترك الناس فيها مع أهوائهم، أو يُنظر فيها بغير اجتهاد شرعي2، وهو أيضا اتباع للهوى، وذلك كله فساد“3.
ومحل البحث في هذا المقال: اعتماد فتاوي أهل العلم فيما يعرض للناس من شؤون، وهو أمر معلوم في منهجية استنباط أحكام الحوادث والوقائع خاصة، ويتأكد ذلك في مثل زمننا هذا الذي قل فيه أصحاب الأهلية والبصيرة في الإفتاء، وكثر فيه من ضعف نظره وهو أمر واضح وبجلاء، وتداعى فيه الناس على الفتوى بآليات هشة فعم البلاء..
قال طاش كبرى زادة رحمه الله عن الفتاوي التي هي الميدان الفسيح الذي يتناول فيه الفقيه الجواب عما يعرض من حوادث، أنها :”علم تروى فيه الأحكام الصادرة عن الفقهاء في الوقائع الجزئية ليسهل الأمر على القاصرين من بعدهم“4.
لكن من دلائل الاضطراب المنهجي في البحث العلمي عند الاعتماد على بعض فتاوي العلماء أن نجعلها تتأرجح بين (تجاوز  تحقيق مناطاتها)!، أو (عدم الانضباط أخذا بها)!!، فهناك فتاوي لعلماء معتد بهم تنص على تحريم أمر ما -على سبيل المثال- لا لمفسدة زمنية أو مكانية..، وإنما التحريم لذات الشيء وفق أصول مقررة، وأنظار محكمة، فَيُدَّعى أن لها تعلقا بواقعها الخاص بها وقد تغير الواقع مع أن القضية على خلاف ذلك لمن أنصف(!!)، فَلَمْ نَنْضَبِطْ علميا عند النظر فيها، ولم نحرص قَبْلُ على جمعها وحشدها وإعلام الناس بها..، فيظهر القول في المسألة المقصودة بالكلام بموجب (شبهة ليست بدليل)، أو (بنظر فاسد عليل)، بعيدا عن لغة العلم مما يسبب ما اصْطُلِح عليه بـ (التَّجَنُّس الفكري)5، فتقع الفتوى مضجعة، محلولة العقال مبنية على التجري لا التحري..، فنعوذ بالله من الفتن المضلة والردى..، وهنيئا لمن ارعوى ولازم الصدق والتقى..
قال القاضي أبو بكر الباقلاني رحمه الله: “اعلموا أن الخطأ يدخل على الناظر من وجهين:
أحدهما: أن ينظر في شبهة ليست بدليل فلا يصل إلى العلم.
والآخر: أن ينظر نظرا فاسدا، وفساد النظر يكون بوجوه:
منها: أن لا يستوفيه، ولا يستكمله وإن كان نظرا في دليل.
ومنها: أن يعدل عن الترتيب الصحيح في نظره، فيقدم ما حقه أن يؤخره، ويؤخر ما حقه أن يقدمه..“6.
فما أكثر المتحسرين على الأحوال الجارية وهو مهم، وما أقل المدركين فيها لحكم الله ومراده وهو الأهم، فعجيب أن نهجم على الإفتاء والفتيا، متجاوزين الفتوى المحققة لأهل العلم والهدى(!!)، فإن من هذا حاله “بمنزلة من يدل الركب، وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يدل على القِبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يَطُبُّ الناس، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم“7.
وفي مقابل عدم الانضباط عند الأخذ ببعض فتاوي أهل العلم: رأينا ووقفنا على ترك تحقيق مناط البعض الآخر من الفتاوي -مع حشدها وإظهارها (!!)- وطبيعتها تستوجب ذلك مما يوقع في الزلل، فإن “أكثر أغلاط الفتاوى من التصور“8، ولذا عُرِّف تحقيق المناط بـ”أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله“9.
فكثير من فتاوي أهل العلم تحتاج إلى تحقيق مناطاتها ليظهر لنا صحة إنزال الأصل العلمي الذي تدور عليه الفتوى بالواقع المقصود الحكم عليه أو عدم ذلك.
وهذا الربط هو الذي يُعرف عند أرباب النظر بـ (التكييف الأصولي)، بحيث يَعمل الناظر بموجبه على تحديد حقيقة الواقعة لإلحاقها بأصل معتبر، خصه الأصوليون بأوصاف أصولية، بقصد إعطاء تلك الأوصاف للواقعة المستجدة عند التحقق من المجانسة والمشابهة بين الأصل والواقعة في الحقيقة10.
ومن أمثلة هذه الأصول المعتبرة التي تدور عليها بعض الفتاوي، وكثر الحديث عنه في هذا الحين، أصل (دفع المفسدة الكبرى بالصغرى) أو (تزاحم المفاسد)، فإن هذا الأخير يحتاج للتحقق من مجانسته للواقعة إلى (تحديد المفسدة الكبرى من الصغرى) وفق النظر الشرعي، مع (عرض الاحتمالات)11، و(النظر إلى المآلات)12 لتحصيل مصالح معينة، والأمر -يا رعاكم الله- يحتاج إلى تؤدة وبصيرة فإنه من المعلوم ” أنه لم يفوض إلى ذوي الرأي والأحلام أن يفعلوا ما يستصوبون فكم من أمر تقضي العقول بأنه في حكم الإيالة والسياسة، والشرع وارد بتحريمه، فلسنا ننكر تعلق مسائل الشرع بوجوه من المصالح، ولكنها مقصورة على الأصول المحصورة، وليست ثابتة على الاسترسال في جميع وجوه الاستصلاح ومسائل الاستصواب“13.
فالقصد إذن بيان أهمية تحقيق مناط بعض الفتاوي14، وذلك بمراعاة الجمع بين أمرين:
أولهما: فهم الواقعة في ذاتها..
ثانيهما: فهم الواقع المحيط بها..
فـ “كل حكم لله أو لرسوله عليه الصلاة والسلام وجدت عليه دلالة فيه أو في غيره من أحكام الله أو رسوله حكم به لمعنى من المعاني فنزلت نازلة ليس فيها نص حكم: حكم فيها حكم النازلة المحكوم فيها، إذا كانت في معناها“15.
فجميل أن يرجع الناظر والباحث إلى بعض نصوص العلماء..، وفتاوي الفقهاء..، استعانة بها16 للخلوص إلى حكم ما في واقعة خاصة..، أو حادثة معينة..، بعد تصورها تصورا صحيحا..، وضبط قواعد هذه الأبواب..، ليصح – بتوفيق الله- التكييف الأصولي وَيُسَلَّم الاعتماد..، وتتحقق الاستفادة من أولي الألباب..
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله:” وضع الصور للمسائل ليس بأمر هين في نفسه، بل الذكي ربما يقدر على الفتوى في كل مسألة إذا ذكرت له صورتها، ولو كلف وضع الصورة، وتصوير كل ما يمكن من التفريعات والحوادث في كل واقعة عجز عنه، ولم يخطر بقلبه تلك الصورة”17.

1- قال أبو عبد الله المقري رحمه الله في قواعده 1/515:”.. فإذا عرضت نازلة عرضها على النصوص، فإن وجد فيها فقد كفي أمرها، وإلا طلبها بالأصول المبنية عليها..”.
2- والاجتهاد الشرعي ليس بالضرورة أن نخلص به إلى القول بالمنع من الأمر المتكلم فيه، أو القول بمشروعيته..، بل قد يؤدي إلى التوقف..، وفي ذلك يقول الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: “ومن أشكل عليه شيء لزمه الوقوف، ولم يجز له أن يحيل على الله قولا في دينه، لا نظير له من أصل، ولا هو في معنى أصل، وهذا الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديما وحديثا، فتدبره” جامع بيان العلم وفضله 2/848.
3- الموافقات للشاطبي رحمه الله 5/39.
4- مفتاح السعادة 2/428.
5- انظر التعالم للشيخ بكر رحمه الله 26-27.
6- التقريب والإرشاد (الصغير) 1/219.
7- إعلام الموقعين 4/276.
8- الفكر السامي للحجوي رحمه الله 4/571.
9- الموافقات 5/12.
10- انظر التكييف الأصولي وأثره في النوازل المعاصرة 20، ومن المهم التنبه له في هذا المقام أنه “مما يدخل في التصور الكامل والتام للنازلة المستجدة، الرجوع والتثبت والاستزادة من أهل الاختصاص العلمي، وهذا فيما لو كانت النازلة لها علاقة ببعض العلوم الطبيعية أو التجريبية وعندها لا بد من معرفة مصطلحات هذه العلوم مما له علاقة بموضوع بحث النازلة” منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة 367.
11- قال أبو حامد الغزالي رحمه الله:” فعلى كل ناظر في المسائل وظائف خمس: أولها: وضع صورة المسألة وفهمها.
والثانية: طلب الاحتمالات فيها واستقصاؤها.
والثالثة: حصر ما ينقدح من جملة تلك الاحتمالات، وتقليلها ما أمكن.
والرابعة: طلب أدلة الاحتمالات.
والخامسة: طلب الترجيح في تلك الأدلة ” كتاب حقيقة القولين في توجيه تخريج الإمام الشافعي لبعض المسائل على قولين 64_65.
12- من الكلمات الجيدة في خصوصه قول الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام 1/121: “فإن قيل: كيف يحرم تحصيل مصلحة ناجزة محققة لتوقع مفسدة مهملة؟ قلنا: لما غلب وقوع هذه المفسدة جعل الشرع المتوقَّعَ كالواقع، فإن العُلُوقَ غالب كثير، والشرع قد يحتاط لما يكثر وقوعه احتياطَه لما تحقَّق وقوعه”.
13- الفصول القواطع للجويني رحمه الله 53-54.
14- ويجب الحذر من الوقوع في البتر من فتاوي أهل العلم والاجتزاء ببعضها، وما أقبح هذا الصنيع الذي ابتلي به كثير من الناس خاصة على الفضائيات..، وما هذا المسلك إلا من مسالك أهل الباطل في تقرير باطلهم، وصدق من قال: “قلما تجد كلاما لعالم محقق يستدل به صاحب بدعة وباطل في تقرير باطله إلا وتجد إذا راجعته في مصدره وجدته قد بتره واجتزأ ببعضه دون بعض، وهذا واقع مجرب!” وسائل أهل الباطل في تقرير باطلهم 63 لمحمد بازمول.
15- الرسالة للإمام الشافعي رحمه الله 512.
16- قال الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله: “وكتب الفتاوى هذه تمثل الناحية التطبيقية العلمية من الفقه، وتظهر نتائج المبادئ النظرية والأحكام المقررة، ومدى ملاءمتها للمصلحة التطبيقية عند وقوع الحوادث المتوقعة كل وقت، لأن الحوادث المتأخرة كثيرا ما تتشابه مع وقائع الماضي“المدخل الفقهي العام 1/190.
17- كتاب حقيقة القولين في توجيه تخريج الإمام الشافعي لبعض المسائل على قولين 47.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *