مظاهر صراع المرجعيتين الإسلامية والعلمانية في المغرب إبراهيم الطالب

لا يخفى على من يتابع ما يجري في المغرب منذ فجر الاستقلال أن الأوساط الحقوقية والقانونية والثقافية تتجاذبها مرجعيتان متناقضتان، إحداهما لها قوة الفعل المادي على الواقع، بينما الأخرى تبقى أساسا للتدين والاجتماع وسندا لأهم مؤسسة في البلاد، ألا وهي إمارة المؤمنين وما تقتضيه من بيعة شرعية ودستورية. فالمرجعية الأولى ذات أساس علماني والثانية هي الإسلام.

وكلما احتدم الصراع بين المرجعيتين كلما كان اضطراب الدولة مكشوفا للعيان، ولعل آخر تجل لهذا الصراع كان عقب تصريحات اللواطي منسق جمعية “كيف كيف”.

فإلى أي مرجعية يستند اللواطيون؟
باستنطاق المرجعية العلمانية سرعان ما تجيبنا المنظمات الحقوقية المغربية بكونها تعتبر ممارسة الشذوذ من صميم الحرية الفردية، وبمساءلة المرجعية الإسلامية سرعان ما تجيبنا نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وفتاوى علماء المذهب أن اللواط/الشذوذ موبقة عظيمة وجرم كبير يجب معاقبة مرتكبه.
إذن، فقضية الشذوذ والدعوة إليه تندرج ضمن المتحارب حوله بين أصحاب المرجعية الدينية المستندة على الكتاب والسنة، وبين أصحاب المرجعية المعتمدة على الفلسفات المادية الغربية المفرزة لحقوق الإنسان كبديل للمرجعية الأولى.
إن مسألة اللواط/الشذوذ هي تمظهر من تمظهرات التدافع بين تيارين: تيار أصيل وتيار وافد، تيار التدين وتيار اللا دين، تيار التغريب وتيار الأصالة، تيار الغازي وتيار المقاوم، تيار الإسلام وتيار العلمنة، تيار الأخلاق الثابتة وتيار قيم الاستهلاك المادي، تيار المقدس وتيار المدنس.
فملف الشذوذ يثار في بلدنا المسلم من حين لآخر، حتى يَقيس من يهمهم أن تهيمن العلمانية على المغرب والمغاربة درجة الممانعة لدى المسلمين، إذ التعايش والتطبيع مع الشواذ أصل لكل تعايش وتطبيع سواء مع الصهاينة أو الغزاة أو حتى الشيطان، فالشذوذ إذن، هو المؤشر الذي تستخدمه جهات محلية ودولية في معرفة الدرجة التي وصلت إليها عملية استنبات الأفكار والمعتقدات العلمانية في المجتمعات الإسلامية.
إلا أن هناك سؤالين ينهضان من تحت الركام الناتج عما أحدثه اختلال الموازين هما: أين علماء المجالس العلمية من هذا الصراع؟
ولماذا لم تستطع الدولة محاربة الشذوذ نهائيا؟

أين علماء المجالس العلمية من هذا الصراع؟
أليسوا حراس القيم والعقيدة؟
أليسوا حماة الملة والدين؟
ولماذا يُحيد العلماء من حلبة التدافع ويفسح للعلمانيين المجال واسعا لنشر أفكارهم؟
لماذا لم نر بيانا شديد اللهجة لعلماء المجلس العلمي الأعلى يسبق بلاغ وزارة الداخلية؟
أليس الشذوذ/اللواط مُجمع على تحريمه في المذهب؟
أليس انتشاره هدم لمنظومة الأخلاق التي بنى عليها الإسلام صرحه المجيد الشامخ؟
إن القوانين لا يمكن أن تحمي القيم والأخلاق لأن مرجعيتها مادية متخشبة سرعان ما تضعف أمام التطور المفتعل نحو هيمنة الشهوات التي اختزلت الإنسان في بطنه وما بين فخذيه، مما يوجب على العلماء القيام بدورهم الدفاعي والتربوي الذي يفرضه عليهم دينهم.
إن الظرفية التي يعيشها المغرب اليوم تحتم على العلماء أن يمارسوا دورهم الفعلي الميداني لا الشكلي التأثيثي، دورهم الشرعي الكامل لا السياسي المجرد من خلفيته الدينية التي تنبني على امتثال قول الله تعالى: “لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ”، فالعلماء هم ضمير الأمة، هم الممثل الحقيقي لأفرادها والمعبر عن آمالهم وطموحاتهم، وهذا ما يفسر عدم نجاح المسلسل الديمقراطي الذي أراد له أصحابه منذ الاحتلال أن يُقصَى منه رجل العلم وحامل القرآن.
إننا عندما نسمح بالمزيد من مظاهر الهيمنة العلمانية على الحياة العامة، نعجل بالدمار والخراب، ونسهم في تعميق الصراع بين غالبية المغاربة البسطاء الذين يريدون ممارسة دينهم داخل المسجد وخارجه في جميع مناحي حياتهم: على شاطئ البحر وفي المنتزهات وداخل المنازل والإدارات والشوارع، وبين أقلية مغربية استهوتها الحياة الغربية غير المنضبطة بدين، يشكل أغلب أفرادها ضحايا ما تروجه وسائل الإعلام وتنتجه سوق الشهوات من لباس متهتك لا يستجيب حتى لأبسط شروط الاجتماع البشري، بل هو أقرب ما يكون من حياة البهائم.
أما بخصوص سؤال:
لماذا لم تستطع الدولة محاربة الشذوذ نهائيا؟
فيبدو أن عدم قدرة الدولة على اجتثاث المظاهر المخلة بالحياء وتطويق المخالفات المناقضة للقانون والدين راجع بالأساس إلى الاضطراب الذي يعرفه تحديد المرجعية على المستوى العملي، فرغم أن الدولة لا تتبنى العلمانية صراحة بل على العكس ينص دستورها أن دينها هو الإسلام، إلا أن مرجعيتها من الناحية العملية تزاوج في أغلب الأحيان بينهما، بل يغلب طغيان العلمانية في تنظيم أغلب القطاعات، فليس كل ما يسن في القوانين مشروعا في الدين (الربا، الخمر، القمار،..)، وليس كل ما هو مشروع في الدين محاطا به في القوانين (الحجاب، الحدود،..)، الشيء الذي يجعل الممارسات الدينية لدى المغاربة والدعوة إلى التمسك بالدين بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، يتناقض في كثير من الأحيان مع القانون، هذا التناقض يظهر أيضا في شكل ارتباك تقع فيه الدولة كلما طفت على السطح قضية مثل قضية الشذوذ الأخيرة، ارتباك يستغله بعض العلمانيين في الدعوة إلى تقنين الشذوذ واعتباره حرية فردية مستندين إلى تبني الدولة حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا.
إن الانحرافات الأخلاقية لم تعد مجرد مخالفات لأوامر الدين أو مجرد ذنوب يرتكبها الشخص المسلم في البلد المسلم، وإنما صارت مؤطرة مقننة، وما لم يصل إلى التأطير والتقنين منها، صار موضوع مطالب تقف وراء النضال من أجل احترامها وحمايتها جمعياتٌ ومنظمات محلية ووطنية تؤطرها وتدعمها منظمات دولية متصلة بالأمم المتحدة.
فالشذوذ/اللواط هو من الذنوب والموبقات المجمع على تجريم ارتكابها بين علماء الإسلام والمذاهب الفقهية، ومع ذلك نجد أن الدولة رغم ذلك تجد حرجا في محاربتها وتعجز عن اتخاذ تدابير تمكّن من اجتثاثها، أو على الأقل من معاقبة من يدعمها أو يدعو إليها.
إن الدولة نظرا لاعتمادها الكبير على القروض الغربية والمساعدات الأجنبية لا ينتظر منها أن تتبنى مواقف صارمة وواضحة من الملفات الأخلاقية ذات البعد الديني، وذلك حتى تضمن استمرار الرضا الأورو-أمريكي الذي يزعجه أي إصلاح قانوني أو مشروع حكومي مبني على أساس الدين، لكونه قد أمضى طول مدة احتلاله للبلاد في إزاحة الحكم بالإسلام، والقضاء على المحاكم الإسلامية والفقه المالكي واستبدالها بالمحاكم المدنية والقوانين الوضعية، لضمان استمرار التبعية له.
وما دامت الدولة تعيش هذا الإكراه فعلى العلماء المخلصين أن يقوموا بواجبهم في حراسة الفضيلة والأخلاق، والذب عن القيم الإسلامية النبيلة حتى لا يأتي يوم نرى فيه أن قضاة الأسرة قد أصبحوا يوثقون لعقود قران اللواطيين والسحاقيات، خصوصا إذا نجحت المنظمات الحقوقية العلمانية في تعديل المدونة مرة ثانية لصالح هؤلاء.

فاللهم سلم سلم.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *