لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن أحداث الصراع التي تقع بين الأساتذة والمتعلمين داخل الفصل الدراسي، هذا الصراع الذي قد يكون سببه في البداية تافها إلا أن التعامل معه بطريقة غير مسؤولة يجعله يتطور حتى يصل بالطرفين إلى ما لا تحمد عقباه.
ولهذا فإن البحث في الأسباب التي تؤدي إلى حدوث الصراع داخل حجرة الدرس واقتراح الحلول العملية المناسبة لتجاوزها، يعد من أهم ما ينبغي أن ينبري له أهل الاختصاص في علوم التربية، خصوصا في هذا الوقت الذي يعرف فيه العالم ثورة تربوية -إن صح التعبيرـ تسعى إلى القطيعة مع المناهج القديمة التي لا تلبي حاجيات المتعلمين، واكتشاف نظريات حديثة تستجيب لمتطلبات الجيل الجديد، وتنمي مهاراته المختلفة وتراعي فروقاته الفردية.
وإيمانا مني بأهمية البحث في هذا المجال فقد أبيت إلا أن أدلي فيه برأي عسى أن يجد القارئ فيه هدى للبحث أو يقرب من هذا الموضوع رشدا. فما هي الأسباب المفضية إلى وقوع الصراع بين التلميذ والمدرس؟ وكيف يمكننا تفادي تلك الأسباب؟
إن السبب الرئيسي الذي يؤدي -في الغالب- إلى وقوع الصراع بين المدرس والتلميذ والذي قد تتفرع عنه باقي الأسباب الأخرى هو رغبة المتعلم في إشعار من حوله بوجوده داخل الفصل الدراسي، سواء بطرق إيجابية كالمشاركة في بناء الدرس وتقديم أعمال جديدة وطرح أسئلة مفيدة… أو بطرق سلبية تعبر عنها كل أعمال الشغب التي يمكن أن يقوم بها التلميذ داخل الفصل، الأمر الذي يدفع المدرس إلى محاولة قمع تلك الرغبة داخل نفسية المتعلم.
فإذا كان تدخل المدرس إيجابيا فإن الأمور تمر في أحسن حال، وإذا كان التدخل سلبيا فإن الحالة تكون كما ترى في الواقع لا ما تسمع، وأعني بالتدخل السلبي: عمل المدرس على دفع السيئة بأسوأ منها؛ وهي النزول إلى مستوى المتعلم لتبادل ألفاظ السب والشتم، وجعل المتعلم بمرتبة العدو الذي ينبغي قهره بمختلف الوسائل.
وهذا لا يعني أني أبرئ التلميذ وأحمل المسؤولية للأستاذ، إذ من واجب التلميذ احترام أستاذه كيف ما كان تعامله معه، ولكن أقدم صورة عن التعامل السيئ لبعض المدرسين تجاه المتعلم، والذي قد يكون سببا في وقوع الصراع بين الطرفين.
أرى أنه من الطبيعي جدا أن يسعى كل متعلم خصوصا في مرحلة المراهقة إلى إبراز كينونته داخل الفصل الدراسي من خلال التوظيف الإيجابي أو السلبي لمختلف الذكاءات التي يتوفر عليها، فتلك طبيعة الذات الإنسانية التي تريد فرض وجودها في محيطها الاجتماعي، وهو الأمر الذي يبرر القول بأن المدرس لا ينبغي أن يتضجر من بعض التصرفات التي قد تصدر عن المتعلمين وإن كانت غير تربوية، خصوصا إذا لم تكن متكررة، بل إنه يتعين على المدرس أن يستغل تلك التصرفات في الكشف عن مختلف الذكاءات التي تتكون منها مجموعة القسم، وذلك من خلال بعض الإشارات التي توحي بها ممارسات المتعلمين.
فالمتعلم مثلا الذي يحاول عند قراءته للنص تقليد صحفي مشهور أو معلق رياضي هو تعبير منه على وجود ذكاء لغوي يتمتع به، وأما المتعلم الذي يرتدي لباسا (عصريا) مخالفا للعادة، أو قد يحلق رأسه بطريقة مثيرة للدهشة، أو يقوم ببعض الأعمال داخل القسم التي تبين أنه يحب لعب دور الزعامة، فما ذلك إلا إشارة منه على وجود ذكاء تفاعلي لديه، فلا ينبغي أن ننظر إليه نظرة احتقار أو كره وإنما ينبغي احتضانه ومحاولة تعديل سلوكه بالتي هي أحسن.
وأما ذلك المتعلم الذي لا يهدأ من الحركة، فتجده تارة يلمس صديقة محاولا صرف انتباهه إليه، وتارة يعبث بأقلامه أو أوراقه، وتارة أخرى يعبث بأصابعه، فهو لا يهدأ من الحركة طوال الحصة، فإنه ذو ذكاء حركي، وهكذا فإن كل سلوك قد يصدر عن متعلم أو مجموعة من المتعلمين فهو تعبير منهم عن ذكاء أو ذكاءات معينة.
وما هذه الأمثلة التي قدمت إلا جزء من النماذج الكثيرة التي قد تحدث داخل الفصل الدراسي، والتي ينبغي الاستفادة منها باعتبارها وضعيات تعليمية، تفسح المجال أمام المعلم والمتعلم لاكتساب معارف جديدة، ولهذا “فإن المتعلم الذي لا نراعي نوع ذكائه لنعلمه وفقه، قد يتغيب عن المدرسة إذا تكرر عدم إشراكه، أو يحضر ويحدث الفوضى في الفصل الدراسي، فضلا عن أنه لا يستطيع أن يستوعب معلومات الدرس حتى لو أبدى نية حسنة في التعلم”. (أحمد أوزي. التعليم والتعلم الفعال ص 140)
وإذا كان من الأسباب المفضية إلى حدوث نزاع بين المتعلم والمدرس هو عدم قدرة هذا الأخير على الاستجابة لمختلف ذكاءات المتعلمين، وذلك من خلال اعتماد طريقة واحد في التدريس قد لا تناسب إلا فئة قليلة من المتعلمين، فإن هناك اكتشافا علميا قد يجعل الكثير من المدرسين في منأى عن هذه المشاكل، إذا كانت هناك رغبة في العمل الجاد والمسؤول.
إن الأمر يتعلق باكتشاف العالم الأمريكي هوارد جاردنر لنظرية الذكاءات المتعددة التي جاءت لتعترف بمختلف القدرات التي يتمتع بها كل فرد من أفراد المجتمع، وتجاوز التصور الأحادي للذكاء ووضع تصور تعددي لهذا المفهوم، “تصور يأخذ بعين الاعتبار مختلف أشكال نشاط الإنسان، معترفا باختلافاتنا الذهنية، وبالأساليب المتناقضة الموجودة في سلوك الذهن البشري” (أحمد أوزي. المعجم الموسوعي ص120).
فالذكاء حسب جاردنر ليس شيئا خارقا للعادة وإنما هو عبارة عن قدرات تختلف باختلاف المجالات، تمكن الفرد من حل المشكلات، والقدرة على التكيف مع الوضعيات وإيجاد الحلول المناسبة لها، وعليه فإن لكل تلميذ يتمتع بقدر من الذكاء الحق في إظهار قدراته ومهاراته، ويكون من واجب المدرس مساعدته على تنمية ذكائه وذلك من خلال العمل على “تفريد عملية التعلم، أي أن يعلم كل متعلم أو فئة من المتعلمين وفق أسلوب وطريقة تعلمها، بحيث يعمد إلى تقديم درسه بكيفيات مختلفة” (أحمد أوزي التعليم والتعلم الفعال ص139)
إن المدرسة العمومية اليوم بعدما تكالبت عليها المصائب من كل جانب، بقي لها أن تقف على أساس واحد وهو توطيد علاقة قوية بين المدرس والمتعلم تقوم على أساس الود والاحترام المتبادل، ولا سبيل إلى ذلك إلا من خلال سعي المدرسين إلى التنقيب عن الطرق والأساليب التي تنمي مختلف ذكاءات المتعلمين، وتستجيب لحاجياتهم الذاتية والاجتماعية، مما يجعل كل متعلم يحس بوجوده داخل الفصل ومن ثم الإحساس بالمسؤولية في ضرورة الإسهام في بناء الدرس، وبذلك يكون المدرس قد حقق مبدأ الإنصاف بين المتعلمين الذي يعتبر من أهم أخلاقيات مهنة التعليم.