التدافع بين الخير والشر طارق برغاني

خلق الله عز وجل البشرية شعوبا وقبائل وجعل الأيام دولا بين الأمم والأقوام، وخص أمما بالخير والإصلاح وميز أخرى بالشر والإفساد، يقول الله تعالى: “إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ” آل عمران: 140، وهذا التقابل المتضاد يحكمه ميزان رباني في تدبير مسار التاريخ وتوازن قوى الخير والشر بين الخلق، يقوم عليه بقاء مصالح العباد، ويتجسد ذلك كله في سنة التدافع بين هذين النقيضين وهي سنة من سنن الله تعالى في خلقه ومنهج إلهي في التدبير والتسيير، وهو نعمة مستمرة يمن الله بها على عباده.
يقول الله تعالى: “وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ” البقرة: 251، فلا تقوم للشر قائمة إلا ويُقيض الله تعالى لها أسبابا بشرية ومادية من الإصلاح لإخماده وكسر شوكته حتى تصير العداوة ألفة، وتُملأ الأرض عدلا بعدما ملئت جورا، ويتمثل ذلك في إرسال الرسل وبعث الأنبياء، يقول الله تعالى:” لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ” آل عمران: 164.
ويتمثل أيضا في إنزال الكتب وتشريع الأحكام وإقامة الحدود وفرض الفرائض، يقول الله عز وجل: “وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُو كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” المائدة: 45.
فيُقوَّم بذلك الدين بعد ابتداع ما ليس منه، وتُصحح الفطرة بعد انتكاسها، وتُروض النفوس بعد تمردها، وتُضبط الشرعة بعد انحرافها ويستقيم المنهاج بعد اعوجاجه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ألا إنَّ ربي أمرني أن أُعلِّمكم ما جهلتم مما علَّمني ، يومي هذا، كل مالٍ نحلتُه عبدًا حلالٌ، وإني خلقتُ عبادي حنفاءَ كلهم، وإنهم أتتهم الشياطينُ فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرَتهم أن يُشركوا بي ما لم أنزل بهِ سلطانًا، وإنَّ اللهَ نظر إلى أهلِ الأرضِ فمقتَهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهلِ الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليكَ وأبتلي بك، وأنزلتُ عليك كتابًا لا يغسلُه الماءُ، تقرأه نائمًا ويقظانَ..” مسلم: 2865.
وعلى العكس من ذلك، فقد يصير الخير غالبا والصلاح سائدا، فيبتلي الله عز وجل أهله بمن يهدم بنيانه ويقوض أركانه، تمحيصا وردعا لهم عن المحيد عن أمر الله تعالى والإغراق في زخارف الدنيا وملذاتها، يقول الله تعالى: ” فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ” الأنعام: 44، “.. تركوا ما وُعظوا وأُمروا به .. بدلنا مكان البلاء والشدة، الرخاء والصحة.. وهذا فتح استدراج ومكر..، والفرح، فرح بطر.. والمبلس النادم الحزين، وأصل الإبلاس: الإطراق من الحزن والندم..” تفسير البغوي: 3/144-145.
وأمثلة ذلك كثيرة، منها ابتلاء الله تعالى للمسلمين بسقوط الأندلس معقل الحضارة ومنارة العلم والعمارة، وسقوط بغداد مهد الفكر والعمران، واحتلال فلسطين وبيت المقدس، وما كل هذه السقطات إلا بسبب التفريط في أحكام الدين والتخاذل في تحصين الأمة والاستكانة إلى الأعداء والركون إلى الملذات، وإذاعة الأقنية والأغنية وإشاعة الترف والزخرف، يقول الله تعالى: “وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ” الشورى: 30.
ومن نبوءات النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، وقد تحقق بعضها ونحن نشهد تحقق الكثير منها في واقعنا، قوله صلى الله عليه وسلم: “إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ خَزَائِنُ فَارِسَ وَالرُّومِ أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ؟ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَو غَيْرَ ذَلِكَ تَتَنَافَسُونَ ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ أَو نَحْو ذَلِكَ ثُمَّ تَنْطَلِقُونَ فِي مَسَاكِينِ الْمُهَاجِرِينَ فَتَجْعَلُونَ بَعْضَهُمْ عَلَى رِقَابِ بَعْضٍ” صحيح ابن حبان: 6688.
والنفس البشرية بطبعها خاضعة للتدافع، تتقاذفها غرائز الشر وطبائع الخير وهي تعيش في تدافع مستمر بين هذين القطبين بين اندفاع وكبح بين انحراف وتقويم، بين تزكية وتدسية، يقول الله تعالى: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا” الشمس: 7-10.
والتدافع يشمل كذلك الحراك الفكري والتفاعل الثقافي والحضاري، فلا تقوم لحضارة قائمة إلا على أنقاض وأشلاء حضارة سابقة، مستفيدة من الأخطاء التي أدت إلى سقوطها، متجاوزة تلك الأخطاء بإعادة النظر وطرح المسائل قيد التمحيص ووضع القضايا الكبرى موضع النقد والتحليل والفحص، وفي مقام الشرع، نجد الإمام مالك قد ضمن مذهبه أصلا فقهيا قائما بذاته وهو اتخاذ شرع من قبلنا شرع لنا، وهو اعتبار الأخذ بالحكم الشرعي المقرر في شرائع الأنبياء والرسل السابقين على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بنص القرآن أو بصحيح السنة، ولم يلحقه ناسخ من شريعة الإسلام، وهذا نموذج على اتصال مسار الدين ومؤشر على اتحاد مصدر الوحي الرباني.
فالمطلوب من علماء المسلمين ومفكريهم في هذا العصر، هو مدافعة الفكر الهدام والمعرفة المنحرفة، بما أوتوا من ثوابت الدين وأحكام الشرع وضوابط الإسلام على ضوء نصوص والكتاب والسنة، وإعمال العقل المنضبط بالشرع في التوفيق والمقارنة والترجيح والموازنة ورد الفاسد والأخذ بالصالح، وإتمام الناقص وإزالة الزائد وإظهار عوار المنحرف، وإبراز صواب المستقيم من الأفكار والنظريات والبحوث والدراسات، فما اتفق منه مع الدين فهو قيمة مضافة، وما اختلف معه فمن الواجب التحذير من خطره والتنبيه على بطلانه، وهذا باب عظيم وأمانة على عاتق العلماء ملقاة، وهم الأجدر بإيضاح سبل النجاة، باتباعهم مناهج الاستدلال بمصادر الشريعة، وإعمال الفكر في الاجتهاد.
وهذا الصراع التدافعي بين الخير والشر، على استمراره وديمومته، فإن منتهى سكونه وغاية استقراره، محسومة لأهل الخير متى تحققت فيهم شروط الخيرية وصفات الإيمان والتقوى والعمل الصالح، بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا وعد رباني صادق، يقول الله تعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا” النور: 55، “الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ” الحج: 41.
اللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، ويسر لنا سبل الصلاح.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *