يقول ابنُ تيمية -رحمه الله- في بعض كتبه: لا تُقبل شهادة العدوّ على عدوّه ولو كان عدلاً.
وهي كلمة رغم اختصارها فإنّها تحمل أدبًا جمًا، وقواعدَ متينةً ينبغي أن يبنيَ عليها المرء كلَّ كلام يصله أو كتاب يطالعه في الرّد على الناس والاستطالة عليهم.. سيما تلك الكتب التي يؤلّفها بعض العلماء والأدباء في الانتصار لأنفسهم والإطاحة بخصمهم، وقد قالوا قديمًا: كلام الأقران بعضهم في بعض يُطوى ولا يُروى.. والمعنى: لا ينبغي إشاعته بين الناس والتّحدّث به إليهم، لكيلا يقع الأغمار والغوغاء في أعراض العلماء دون بيّنة فيكونوا كالببغاء الذي يردد كلام غيره بلا عقل يحميه من مَعَرّة الكلام الذي قد يكون سافلًا لا يليق.
وكتاب (على السّفود) للأديب الرّافعي الذي شنّ فيه حربًا ضروسًا لا رحمة فيها على عدوّه الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد خيرُ مثال.. لذلك تعالوا نتأمّل أخبارهما..
أوّلا ينبغي قبل قراءة أيّ كتاب من الكتب، -سواء في الأدب أو العلم الشّرعيّ- معرفة شخصية المُؤلّف وعقيدته وتوجّهه وقراءة ترجمته إن أمكن ذلك، وقراءة كلام النّقاد فيه حتّى تتّضح الرّؤية بين يدي المطالعة.
يقول الشّيخُ عليّ الطّنطاوي حين تعرّض لأسلوب الرّافعي وقسّمه إلى أربعة أقسام في كتابه (فصل في الثقافة والأدب؛ ص:245-246):
أسلوبه في النّقد، وهو مملوء بالسّخريّة والتّعالي والهمز واللّمز، وإن كان نقده لطه حسين في كتاب (تحت راية القرآن) نقدّا نظيفًا، أمّا نقدُه للعقّاد في كتاب (على السّفود) فهو هجاء بذيء، لذلك لم يطبع اسمه عليه.
انتشر كتاب «على السّفُّود» وتناوله القرَّاء على أنّ كثيرًا منهم لم يعرف كاتبه إلا بعد سنين… وكان في هذا خير للرافعي ولسمعته الأدبية ولمكانه من نفوس القراء؛ إذ كان العقاد يومئذٍ هو كاتب الوفد الأول، والوفد هو الأمة كلّها، قراؤها وعامتها وشيوخها وشبابها؛ فكان العقاد بذلك هو عند الشعب إمامَ الكتاب وأمير الشعراء، لا يعاديه إلا خارج عن الأمة أو مارقٌ من الوطنية، ولو كانت عداوته في مسألة أدبية لا تتصل بالسياسة، ولو كانت مناقشته حول إعجاز القرآن.
وعلاقة الرّافعي بالعقّاد كانت متّجهةً نحو التّوتّر منذ أصدر كتابه (تاريخ آداب العرب) سنة 1911م، إذ أفصحَ العقّاد عن رأيه في الرّافعي أنّه (مُنشئ مكين.. ولكنّه مضطرب القياس، يُعمِل القلمَ ولا يُعمِل الرّأيَ) وأنّه يجدُ بالتّالي هذا التّاريخ (كتاب أدب، لا تاريخ أدب).
وحينَ أصدرَ الرّافعي كتابه (إعجاز القرآن) جدّد العقّاد اتّهامه للرّافعي بـ ضَعف المنطق وفساد القياس).
يقول الدّكتور عبد اللّطيف شرارة في كتابه (معارك أدبية قديمة ومعاصرة ص:287.288):
وموقف العقّاد هذا كونه ناقدًا، أو مفكّرًا، يمكن الدّفاع عنه أو الأخذ به أو رفضه، حين ينحصر في إطار الفكر والنّقد، ولكنّه لا يخلو من تأثر بالناحية السياسية، والرافعي هو المسؤول عن هذا التأثر، لأنه عمد في مقدمة الكتاب إلى الإشادة بفضل الملك «فؤاد الأول»، واعتبرهُ رجاء الإسلام، بل فؤاد هذا الجسم الإسلامي كله، فهو الملك الراسخ في العلم، ثم القوي بعلمه في الإيمان، ثم المتمكن بإيمانه في الفضيلة.
وهنا، يبدو بكثير من الوضوح، لكل ذي نظر، أن اختيار هذا الموضوع -إعجاز القرآن- لتمجيد الملك فؤاد، لم يكن من قبيل المصادفة.
إنه يُشكل ضربًا من الاحتماء بالدين، في مقارعةٍ أو مشادةٍ بين حزبين: الملكي من جهة، وأنصار الدستور أو الجمهورية، في المقابلة، من جهةٍ أخرى. وهو موقف يؤكد ما شاع يومذاك، أن الأمر كله مفتعل، وأن الغاية كلها، إنما كانت مساندة القصر في وجه مناوئيه من المفكرين والكُتاب، وعلى رأسهم عباس محمود العقاد.
وهكذا، اتخذت المسألة وجهًا سياسيًا طغى على وجوهها الأخرى طُغيانا كاملًا، ولكنه وجهٌ لبس «قناعًا» من الأدب والفكر والدين، وجعل هذه حجبًا يستتر وراءها، فكان انزلاقه إلى «المهاترة» أمرًا مُنتظرًا، وخروجه عن الجادّة غير مُستغرب ولا مستهجن.
وأوّل مظهر لذلك الانزلاق تَمثّل في كتاب (على السّفود) الذي نشر، أول ما نشر، مقالات مُتتابعة في مجلة (العصور) لصاحبها إسماعيل مظهر، ولم يكن هذا من أنصار الرّافعي، ولا من المعجبين بأدبه، وفضله، ولكن خصومة العقاد، ومحاولة النيل منه، والحطّ من شأنه هي التي جمعت بين النقيضين في التفكير والاتجاه. وليس «على السفود» شيئًا في الحقيقة، سوى طعنٍ وقذفٍ وشتمٍ وإزراء، مما لا يصدق صدوره عن أديبٍ يُباهي بتدينه مثل الرافعي، حتى اضطر في أواخر أيامه إلى الاعتراف بأن كتابه ذاك «رجسٌ من عمل الشيطان» حسب رواية رواها أحمد حسن الزيات، منشئ «الرسالة» ورئيس تحريرها. كما يقول عبد اللطيف شرارة في المرجع السابق.
وينقدُ العقّاد أدبَ الرّافعي في كتاب الدّيوان ويقول في الهجوم عليه:
«مصطفى أفندي الرّافعي رجلٌ ضيّق الفِكر مدرع الوجه يرُكبه رأسه مراكبَ يتريّثُ دونَها الحُصفاء. وكثيرًا ما يخطئون السباد وطالما نفعه التطوع وأبلغه كلّ أدبه أو جلّه؛ إذ يدّعي الدّعاوى العريضة على الأمّة وعلى من لا يستطيع تكذيبه فتجور دعواه وينفق إلحافه عند من ليس يكرثهم أن يخدعوه به.. وكذلك فعَلَ ضِيقُ الفكر وركوبُ الرّأس بمصطفى الرّافعي فحقّ علينا أن نُفهمه خطرَ مركبه وأنّ قدميه أسلسُ مقادًا من رأسه لعلّه يبدّل المطبّة ويُصلح الشّكيمة».
ثم يصفه العقاد بأنّه من أدباء الجيل الماضي ويهاجمه قائلاً: هذا رجل لا يستحي أن يسمّيَ نفسه على غلاف رسالته بنابغة كُتّاب العربية وزهرة شعرائها. ثم يهاجمه بقوة قائلاً: (إيه يا خفافيش الأدب: أغثيتم نفوسنا أغثى الله نفوسكم الضّئيلة، لا هوادة بعد اليوم، السّوط في اليد.. وجلودكم لمثل هذا السوط قد خُلقت وسنفرغ لكم أيها الثقلان).
وتشتعل نيران الخصومة بين العقاد والرّافعي بسبب الصّراع على صداقة الزعيم (سعد زغلول)، فالأول هو كاتب الأمّة الذي أحبّه سعد واحترمه، والثاني له مكانته عند سعد أيضًا.. أمرًا جعله يقول عن كتابه (إعجاز القرآن) مُقرّظا بعبارة: «كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذّكر الحكيم».
وتتأجّج الخصومةُ أكثر وأكثر حين يعلن العقاد بأن هذه الكلمة التي يتشدق بها الرافعي ويفتخر لم تصدر عن سعد زغلول وإنما هو خالقها ومزوِّرها.. ليصدّر بها كتابه حتى يروج عند الشعب.
وهنا جنّ جنون الرّافعي، فخاض (معركته الخفية) ضد العقاد وهي عبارة عن سلسلة من المقالات السّامة أو الحارقة التي نشرها -دون توقيع- في مجلة (العصور) تحت عنوان (على السّفود)، كانت غاية في العنف، وكان الهدفُ منها على حدّ قول الرّافعي نفسه: «نحن نريدُ أن نضع أنفَ هذا الجبّار في الأرض مقدار ساعتين على الأقل.. لأنّه لم يتجرّأ عليه أحد إلى الآن والذين كتبوا عنه لم ينالوا منه نيلاً». [العقّاد في معاركه الأدبية والفكرية ص:98.99 للأستاذ سامح كريم].
وقد كان رأي العقّاد في أدب الرّافعي قبل هذه الخصومة جيّدًا، فهو يقول سنة 1917م: «إنّه ليتّفق لهذا الكاتب من أساليب البيان ما لا يتّفق مثله لكاتب من كتّاب العرَبية في صدر أيّامها».
ثمّ ينقلب انقلابًا شرسًا عليه سنة 1933 م فيقول: «المِهْذارُ الأصَمّ.. إلى آخر هذه النّعوت التي لا تليق بأهل العلم والأدب والفكر».
وكان بدء هذه المعركة هو ذلك الحديث الذي دار بين الرافعي والعقاد في دار «المقتطف»، حول حقيقة إعجاز القرآن، وكتاب «إعجاز القرآن»، وكان للعقاد فيهما رأي غير رأي الرافعي، فكانت غضبة الرافعي الأولى لكرامة القرآن، والعقادُ ينكر إعجازه، ولكتابه، والعقاد يجحد فضله، ثم كانت الغضبة الثانية للتهمة التي رماه بها العقاد حين جبهه بأنه افترى كتاب سعد ونحَلَه إياه في تقريظ «إعجاز القرآن» ليروج عند الشعب.
فثمّة سبب عام أنشأ هذه الخصومة؛ هو إيمان الرافعي بإعجاز القرآن إيمانًا لا يتناوله الشك، وسببان خاصان: هما رأي العقاد في كتاب الرافعي، ثم تهمته له بأنه مفترٍ كذَّاب.
تُرى أي هذه الأسباب الثلاثة هو الذي أثار الرافعي فدفعهُ إلى الخروج عن الوقار والأدب الواجب فيما أنشأ من مقالات «على السَّفُّود»….؟
الرافعيُّ يقول: إنها غضبة لله وللقرآن.
وللتاريخ رأيٌ لست أدري أيفارق هذا الرأي أو يلتقي وإياه على سواء…؟
ولكن كتاب «على السفود» مع ذلك لا يتناول مسألة المسائل في هذا الخلاف، فلا يتحدث إلا عن شعر العقاد وديوان العقاد، ثم عن أشياء خاصة تعترض في فضول القول وحشو الكلام، فأين هذا مما دارت عليه المعركة من أسباب الخصام.. الرافعي يقول: هذا أسلوب من الردّ قصدتُ به الكشف عن زيف هذا الأديب والزراية بأدبه، حتى إذا تقررت منزلته الحقيقية في الأدب عند قرّاء العربية، لا تراهم يستمعون لرأيه عندما يهم بالحديث عن إعجاز القرآن. وهل يحسن الحديث عن إعجاز القرآن من لا يستقيم منطق العربية في فكره ولا يستقيم بيانها على لسانه؟… هكذا يقول الرافعي.
[حياة الرّافعي / ص:195 طبعة مؤسسة الرّيان]. ومن ثم بدأت المعركة على أعين القرّاء.
يقول تلميذ الرّافعي الأستاذ سعيد العريان عن كتاب (على السّفود): إنّ هذه الخصومة العنيفة بين الرافعي والعقاد قد تجاوزت ميدانها الذي بدأت فيه ومحورها الذي كانت تدور عليه، إلى ميادين أخرى جعلت كلًا من الأديبين الكبيرين ينسى مكانه ويغفل أدبه ليلغَ في عرض صاحبه ويأكل من لحمه من غير أن يتذمّم أو يرى في ذلك معابة عليه! وكان البادئ بإعلان هذه الحرب هو الرافعي في مقالاته (على السَّفُّود).
ويقول متأسّفا على ما فيه من خطل القول وبذاءته: وإنّها لخسارة أن ترى التّمثال الفنيَّ البديعَ مغمورًا في الوحل، فلا تصل إليه إلاّ أن تخوض له الحمأة المُنتنة، وهيهات أن تقبل عليها النّفس.
وإنّها لخسارة على العربية أن ترى هذا الفَنَّ البديعَ في النّقد يكتنفه هذا الكلام النّازل من هجر القول ومرّ الهجاء. [حياة الرّافعي / ص:196 طبعة مؤسسة الرّيان].
وهو يقصد بذلك -رحمه الله- ما في الكتاب من نقد جيّد ونفاذ فكر ودقّة نظر لكنّه للأسف جاء ممزوجًا بالسّب والشتم والسّخرية وما إلى ذلك من الأمور التي لا تليق بمستوى الرّافعي.