الناس عموما أبدت رغبتها في تولي (الاسلاميين) مقاليد التسيير والتدبير لشؤون الحياة، حتى يتحقق لهم شيء من العيش الكريم الذي افتقدوه طوال عقود من الاستبداد العلماني، لكن الذي لا يقبل الشك ولا يخضع للنقاش، والذي يعتقده كل مسلم له بالاسلام علم وبصيرة، أن الإسلام بشريعته الغراء قادر في كل الازمان والأمكان أن يضمن للناس حياة كريمة تتوفر فيها كل عناصرالسعادة الحقة، وبه تتحقق كرامتها ويرقى عزها ومجدها، وهذا رهين بمدى تمسك المسلمين بدينهم والتزامهم بتعاليمه في جميع مجالات الحياة وتفاصيلها.
إن المعلوم من دين الله أن صلاح دنيا المسلم -وأقول المسلم- صاحب اليقين في الله تابع لصلاح آخرته، وأن اهتمامه بالآخرة يكفيه هم الدنيا، لكن للأسف اليوم نبحث عمن يقوم دنيانا فقط دون اهتمام بالدين، بل ولو على حساب الدين أحيانا كثيرة، وأن التغيير الذي يطالب به الجميع اليوم كل يرسم لوحته بشكل يتصوره عقله، ويصبغها بألوان فكره وقناعته، والمسلم الحق موقن أنه لا عزة له بلا دين، ولا تمكين بلا إسلام، ولا رخاء ولا صلاح ولا تغيير بدون شرع رب العالمين.
لكن كيف السبيل إلى هذا التغيير المنشود؟
وكيف يتحقق ومن أين يبدأ؟
إنه ينطلق من الأسفل إلى الأعلى، والبداية من الأفراد نحو تغيير جماعي يتوج بقيادة قادرة على مواكبة التغيير وتحمل العبء الكبير من المسؤولية.
إن النخبة الصالحة والساسة المستقيمون يفرزهم واقع الأفراد، وهم انعكاس لصلاحهم واستقامتهم، يتولون شؤونهم على هدى من الله. ولا ينتظر من القيادة مهما كانت في الصلاح أن تضبط الحياة وتعمل على التغيير وفق منهج الله وشرعه إذا كان الأفراد غارقون في أوحال الانحراف، ومنهم من يفعل ذلك اعتقادا وقناعة، وليس ضعفا أو استسلاما لنوازع الغرائز، ولا بد أن يكون أفراد المجتمع على خير وصلاح ليتعاون الصلاح مع الصلاح ويكون المجتمع قادرا على الوقوف في وجه كل من يريد تدنيس دينه وتشويه شريعته وفرض قيم غربية غريبة لا تمت لإسلامه بصلة، حتى تكون هذه القيادة من ذاك الشعب وذاك الشعب من تلك القيادة.
إن ما يرجى من سياسة شرعية تسوس دنيا الناس بالدين لهو حلم لا زال مؤجلا إلى حين -مع التفاؤل طبعا-، ولا ينتظر من الحكومات (الاسلامية) (تجاوزا) أن تقود الأمة نحو تغيير قائم على شرع الله؛ وما ذلك إلا لوجود إكراهات الخارج وإكراهات الداخل الذي تمثله نخبة أقلية تستقوي بالخارج، يضاف إلى هذا وجود أرضية شعبية كثير منها تطبع على المخالفات الشرعية الموجودة في جميع جزئيات الحياة، وما أصعب الفطام!
والقانون أعجز عن ذلك مهما كان، ومنهم من عنده نظرة غير واضحة عن حقيقة الشريعة الإسلامية الغراء، ومدى قدرتها الفعالة في القضاء على جميع مشاكل الناس الحياتية التي تشكل لهم الهاجس المخيف بشكل كبير اليوم.
هناك تعاطف، لكن عند التفاصيل يظهر استغراب كثير من المسلمين من شرائع الاسلام الشمولية والحاسمة، بسبب عملية التجهيل التي تعرضوا لها طوال سنوات من التدبير العلماني الفاشل.
ومن تم فإن غاية ما يتوقع من هؤلاء المنتخبين الإسلاميين الذين تصدروا مشهد التسيير الحكومي أن يوفروا الجو المناسب للعلماء والدعاة والمربين الذين لهم القدرة والتكليف من الله “لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ“، فعلى عاتقهم تقوم مسؤولية التربية والتوعية من أجل إصلاح الأفراد ليصلح المجتمع، ومن تم تكون الحكومات والساسة والمسؤولون مرآة المجتمع الذي تنعكس عليه وضعية الأفراد “فكما تكونوا يول عليكم”.
إن منهج الإصلاح من أسفل إلى أعلى منهج رباني دعا إليه القرآن الكريم كما في قوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ“، فالتغيير المجتمعي الشامل يبدأ بالتغيير النفسي الذاتي، وهذه سنة إلهية كونية لا تتغير ولاتتبدل، وهذا المنهج هو الذي صار عليه النبي صلى الله عليه وسلم في بناء المجتمع الذي لم يسبق له مثيل، فقد عمل صلى الله عليه وسلم على تربية الأفراد وتأهيلهم لتقبل الحكم الاسلامي، والحكومة الإسلامية الملتزمة بشريعة الاسلام، وذلك لسنوات دون استعجال، ولو كان الاصلاح يبدأ من أعلى لاختار صلى الله عليه وسلم أن يكون ملكا أو زعيما تخضع له الرقاب فيوجهها ويخضعها لدعوته ودينه فيبدأ التغيير من أعلى الهرم.
ولكن لما صلح حال الأفراد نزلت الشرائع المتعلقة بتنظيم الدولة فتلقتها الرعية بالقبول والتسليم، كما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: “إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا تاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر؛ لقالوا: لا ندع الخمر أبدا؛ ولو نزل لا تزنوا؛ لقالوا: لا ندع الزنا أبدا” صحيح البخاري.
إن الهرم مهما كان صالحا يصعب عليه أن يطوع القاعدة إذا كانت منحرفة، والرعية الفاسدة. ويتعذر الوصول إلى نتيجة تحقق التغيير المنشود، وللتاريخ شواهد من هذا، وذلك أن النجاشي ملك الحبشة لما أسلم أخفى إسلامه خوفا من رعيته، ولم يقدر على أن يفرض عليهم الإسلام رغم أنه الملك، وكذلك قيصر عظيم الروم الذي حاول الإسلام لكن تراجع وهو في القمة وصاحب الملك تأثرا بضغط الرعية والقاعدة.
إننا نرى اليوم من يطالب برغيف خبز وكرامة، ومن يخاف على قنينة خمر ويخشى أن يحرم من متعة منحطة، والمتقلدون لدواليب التسيير حائرون ما المخرج؟ أهم في ورطة؟ سلمهم الله منها، أم هناك شيء ما يخبؤه القدر؟ بلا شك.
وخاتمة المقال قصة معبرة بالغة تروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه جاءه رجل فقال له: ما بال الناس اتفقوا على أبي بكر وعمر واختلفوا عليك؟ فقال: لأن أبا بكر وعمر كانوا يحكمون مثلي وأنا أحكم مثلك، فلذلك اختلف الناس عليَّ.