من المتقرر عند أهل السنة والجماعة أن أفعال الله تعالى لا تخلو من حِكَم بليغة عَلِمَهَا من علمها، وجَهِلها من جَهِلها، ألا وإن من أفعاله تبارك وتعالى تشريعاته، ومن تشريعاته الصيام، فما كان الله تعالى ليفرض الصيام على عباده يريد بذلك تجويعهم وتعطيشهم لإلحاق الحرج بهم، كيف وهو القائل في محكم تنـزيله: “وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ” الحج، وقال سبحانه: “مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” المائدة، وقال تعالى في شأن الصيام: “يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ” البقرة، فنفى في الآية الأولى وجود الحرج فيما شرعه لعباده، ونفى في الثانية إرادة الحرج بعباده، وأثبت في الثالثة إرادته اليسر بهم، وقوله تعالى في الآية الأولى والثانية “من حرج” نكرة في سياق النفي فتعم كل حرج وقد أكد عموم نفي الحرج بحرف “من”، أي لم يجعل عليكم في الدين أدنى حرج أو ضيق، ولا يريد أن يلحق بكم حرجا قليلا ولا كثيرا، بل يريد بكم اليسر، فالمقصود أن الله تعالى غني عن تعذيب عباده أو إلحاق الحرج بهم؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم للذي نذر أن يأتي البيت الحرام ماشيا، وقد رآه يهادى بين ابنيه: (إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه)، وأمره أن يركب (متفق عليه).
فالمشقة اليسيرة التي توجد فيما شرعه الله هي مشقة داخلة تحت المقدور، كما أنها غير مقصودة لذاتها، وفيها من المصالح الدنيوية والأخروية أضعاف أضعاف ما فيها من مخالفة النفس وحملها على ترك الشهوات، وفي متابعة النفس على هواها من المفسدة أضعاف أضعاف ما يظن في ذلك من المصلحة، كما قال تعالى في الجهاد: “كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ” البقرة، ونظرا لما في الصيام من منع الأنفس من شهواتها فإن الله تعالى تلطف مع عباده غاية التلطف حين فرضه عليهم، فقال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” البقرة، فناداهم بوصف الإيمان وفي ذلك تشريف لهم من وجهين:
الأول: أنه ناداهم بأحسن أوصافهم وهو الإيمان، وذلك أدعى لأن تجد منهم موعظته سبحانه آذانا صاغية وقلوبا واعية، لذلك قال عبد الله بن مسعود: “إذا سمعت الله يقول يا أيها الذين آمنوا فارعها سمعك (فانه خير يُأمر به أَو شر ينهى عنه” (أحمد في الزهد بإسناد رجاله ثقات).
الثاني: أنه خصهم بالنداء دون غيرهم من الكافرين، فإن هؤلاء أعرضوا عن الله فأعرض عنهم، ففي هذا النداء من التلطف والعناية الربانية ما فيه.
ثم قال: “كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ” يخبرهم أنهم ليسوا بأول الأمم التي يفرض عليها الصيام، بل هو شريعة فرضها الله على الأمم السابقة، يريد بذلك أن يُهوّن عليهم هذه العبادة ويخففها عنهم، فإن الأمر إذا عم هان، وهذا تلطف آخر وترفق.
ثم قال: “لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”: أي أن هذا الصيام ما فرضته عليكم إلا لما فيه من المصلحة لكم، فهو يدعوكم إلى التقوى، قال البغوي: “لأن الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات”، ولا شك أن ذكر الحكمة من التشريع مما يخفف العبادة على النفس، ويدعوها إلى الإقبال عليها وهي راضية قريرة العين؛ وإن كان الاطلاع على الحكمة والتعليل ليس شرطا للامتثال عند المؤمنين الصادقين, فهذا التعليل ترفق آخر بالعباد وتلطف معهم في التشريع، مع أن من حقه تعالى أن يُطاع ابتداء من غير حاجة إلى تعليل، كيف وهو رب العباد وخالقهم، والمُغدق عليهم بالنعم.
ثم قال عز وجل: “أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ” يقللها في أعينهم لتخف على نفوسهم، يقول لهم: إنني لم أكثر عليكم، وإنما فرضت عليكم صيام أيام معدودة محسوبة، ثم ترجعون إلى ما تحبون من الطعام والشراب، فما ألطف الله بالعباد، وما أجرأ العباد على الله.
ثم قال: “فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ”: لما فرض عليهم الصيام علم تبارك وتعالى أن سيكون منهم أهل أعذار مؤقتة وأخرى دائمة، فشرع لكل ما يناسبه ويقدر عليه، فأجَّل أهل الأعذار المؤقتة إلى حين ارتفاعها عنهم، ورضي من أهل الأعذار الدائمة الفدية، مع أن الصيام خير لمن قدر عليه لما فيه من تربية النفس وتزكيتها وحملها على التقوى، وقد جعل الله تعالى هذه الرخص لعباده قبل أن يسألوه إياها، وفي ذلك من التلطف بهم ما فيه.
ثم قال: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ”: يُذكِّر الله تعالى عباده بفضيلة هذا الشهر العظيم، وأنه أنعم عليهم فيه بأعظم نعمة، وصرف عنهم فيه أعظم مصيبة؛ إذ “كل نعمة هي دون نعمة الهداية، وكل مصيبة هي دون مصيبة الضلالة” (ابن القيم في شفاء العليل1/65)، ولاشك أن استحضار ذلك مما يهون على المسلمين صيام هذا الشهر شكرا لله تعالى، وهذا أيضا تلطف منه تعالى وترفق بالعباد في فرض الصيام عليهم.
ثم قال: “فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ” تأكيد للرخصة السابقة، وفي ذلك ما سبق ذكره.
ثم قال: “يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ” : فيه إشارة لما سبق بأن الله تعالى لا يريد بالعباد عسرا ولا حرجا في فرض الصيام عليهم، وفي هذا تحبب منه إلى العباد وتلطف آخر.
ثم قال: “وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” البقرة: فيه إشارة إلى أن الصيام كما أنه شرع شكرا لله تعالى على نعمة تنـزيل القرءان في شهر رمضان، فهو أيضا نعمة تحتاج إلى شكران، ولذلك شرع التكبير يوم العيد وكان عبد الله بن عمر يزيد فيه: “الله أكبر على ما هدانا” (رواه المحاملي في “صلاة العيدين “، وصححه الألباني في الإرواء).
ثم قال تعالى: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ” البقرة، هذا تلطف آخر مع العباد، يَعِدهم بالاستجابة لدعائهم إن هم استجابوا له فالجزاء من جنس العمل، ولذلك كان الصائم ممن لا ترد دعوته.
فإذا كان الله حقه أن يشكر على نعمه بعبادته، وكان التوفيق للعبادة نعمة أخرى لا بد من شكرها، فمتى يبلغ العبد شكر مولاه؟ فاللهم عفوك! وإذا أدرك العبد أن التوفيق للصيام نعمة من الله تستحق الشكر، فإن ذلك يهونه عليه ويمنعه من أن يَمُنَّ على ربه كما قال تعالى:” يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ” الحجرات.
فهنيئا لمن وفق لصيام هذا الشهر وقيامه، وحمله صيامه على تقوى الله، فإن ذلك من علامات القبول، وإن المرء ليعجب من قوم يحل عليهم رمضان ضيفا كريما فلا يحسنون قِراه ووفادته، وقد قال فيه رب العزة ما قال، ثم إذا ولى لم يحزنوا على فراقه، بل إنه كما وجدهم على غير هدى من الله كذلك يتركهم كل عام، مما يدل على أنهم وإن صاموا ظاهرا فإنهم لم يصوموا كما أمرهم الله تعالى، إذ لو فعلوا لأثمرت شجرة صيامهم ثمرة التقوى، فتأمل أخي تلطف الله مع العباد في فرض الصيام عليهم وانظر إلى جفائهم مع ربهم، فإن أكثرهم لا يصوم الصيام الذي يريده منه ربه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.