لما صح عندنا أن البركة أنواع، أبرزها ما هو مادي وما هو معنوي أو روحي. حق لنا التساؤل عما إذا كان المتوفرون عليها أحرارا كي يفعلوا بها ما يريدون؟ أم أن حريتهم بخصوص التصرف فيها حرية محدودة مقيدة؟
ينبغي أن نفهم -ونحن مسلمون- أن البركات كلها في الحقيقة لله وحده. وأننا فيها مستخلفون.. كانت عقارات أو حقولا أو أنعاما أو معادن أو تجارات. أو كانت مصانع وأوراشا تغطي ميادين مختلفة بعضها يخص البناء، وبعضها يخص الصناعة النحاسية أو الحديدية. إلى آخره. أو كانت علوما وقدرات عقلية وروحية. مجالها الإفتاء والشرح، والبحث والتمحيص. والتحليل والتركيب. كان أصحابها فقهاء في الدين. أو كانوا أطباء وصيادلة، أو كانوا مؤرخين أو مهندسين. ما داموا جميعهم يتصفون بصفتي: “الإخلاص” و”الصواب”.
وبما أن البركات جميعها لله ومنه وإليه. وبما أنه لم يخلقنا عبثا كما أخبرنا في الكتاب المبين بهذه الحقيقة. وإنما خلقنا لنعبده. فإنه كذلك لم يخلقنا ويتركنا لأنفسنا بدون ما عناية. ومن هنا خاطبنا بقوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى}القيامة. يعني أن يهمل “فلا يؤمر ولا ينهى”.
ومن منطلق الأمر والنهي الإلهيين -وهما مبدءان من مبادئ الدين- نفهم كيف أن تصرفنا في بركاتنا بنوعيها المذكورين، تصرف محدود مقيد، تضبطه نصوص نقلية من آيات قرآنية ومن أحاديث نبوية.
فإنفاق الأموال والتصرف في الثروات، يراعى فيهما التكافل والتعاضد كواجبات مفروضة على كل مسلم، وعلى الميسورين خاصة. بحيث إنه سبحانه وجههم إليهما حتى لا يصل اختلال التوازن المادي والمعنوي في المجتمع المسلم بين الفقراء والأغنياء إلى أقصى مداه. نتحدث هنا مثلا عن الصدقات الواجبة. وعن المندوب إليها من باب المداومة على فعل الطاعات التي لا يمكن حصرها في عمل واحد صالح. فإن دفع أحد الأثرياء ما عليه من زكاة، فإنه يشارك غيره من إخوته في دفع زكاة الفطر كصدقة واجبة، دون أن يكف عن العطاء في السر والعلن حتى يكون قدوة لغيره. هذا إن هو رغب في كسب مزيد من البركة، وإن هو رغب في التمسك بسنة المختار التي تزخر بالإكثار من النوافل أو بالإكثار من الطاعات التي تبارك كلها الأعمال والحسنات. إذ لا يمكننا التقليل من أهمية المواساة، وعيادة المرضى، ومساندة المظلومين، وإماطة الأذى عن الطريق، ورفع الصوت لاستنكار المناكر، وإغاثة المنكوبين، وتوجيه الناس إلى فعل الخير، والتدخل لإصلاح ذات البين؛ وعدم كتمان ما ورد في الكتاب المبين؛ وتقريع من عرفوه ثم سكتوا عن نشره؛ وعدم التغاضي عن نشر ما ورد في سنة سيد الناس؛ إلى حد أن المؤمن الملتزم بدينه لن يكون وقته فارغا أبدا. فهو باستمرار ذاكر لربه، تأسيا بخير العباد في هديه، إذ كان “أكمل الخلق ذكرا لله عز وجل. بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه. وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله”. أي أنه -كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها- كان ذاكرا لله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله.
مما يتضح لنا معه كيف أن المسلم بأعماله الصالحة المتواصلة يجني من البركات ما لا يحصي قدره إلا الحق سبحانه. والبركات هنا مقصود بها الحسنات التي تتضاعف أعدادها ممثلة فيما يكسبه المؤمن من ثواب أو من أجر، جزاء له على استقامته وتقواه وإخلاصه وصدقه وتسننه. وكلما كثرت حسناته، لحسن أدائه لما عليه وزيادة، كان ذا بركة، بغض النظر عن موقعه من الجماعة التي ينتمي إليها، نقصد في حيه أو في قريته، أو في مدينته، بل وفي موقعه من بلده. وذلك لأن البركة ليست حكرا على أحد. فكما أن الناس سواسية كأسنان المشط، لا يتفاضلون إلا بالتقوى والعمل الصالح، فإنه تعالى يمنحها للعالم، وللفلاح، وللجزار، وللتاجر، وللإسكافي وللنجار، وللطبيب، ولعامل يكد للحصول على لقمة عيشه وعيش من يعولهم من أفراد أسرته. مما يؤكد لنا أن البركة يتوفر عليها غير العلماء، وأنها لا تنحصر في هؤلاء، وفي الأئمة، والموصوفين بأولياء الله، وشيوخ الطرق ومريديهم المعروفين عندنا بالفقراء أو الدراويش باللغة الفارسية. إذ كل ادعاء من هذا القبيل -نقصد حصر البركة في جماعة بعينها- إصرار من أصحابه على تضييق مجالات رحمة الله التي وسعت كل شيء. يكفي أن يتصف عمل المؤمن -كما تقدم- بصفتين اثنتين متلازمتين، لتتدفق عليه الحسنات مباركة من المهد إلى اللحد. ونقصد بالصفتين كلا من “الإخلاص” و”الصواب”.
فإن كان الإخلاص هو الوفاء في الحب والطاعة: حب الله وطاعته بالوقوف عند حدود أمره ونهيه. فإن الصواب، هو التعبير المزدوج عن الحب والطاعة كليهما. خاصة وأن طاعة الله من طاعة مجتباه. وطاعة مجتباه من طاعة ربه. وأن حب الله من حب نبيه. وحب نبيه من حبه عز وجل. يعني أن حب الله لعبد من عبيده مشروط بحب هذا العبد لرسوله. وحب الرسول هو الاقتداء به، أو هو اتباع سنته. واتباع سنته هو عين “الصواب” الذي يقتضيه “الإخلاص”.
وإلا ما استفاد المؤمن من أي عمل تعبدي متى أحكم الرياء قبضته عليه! ومتى سلك دروبا لم يسلكها المختار، لا بأقواله ولا بأفعاله ولا بتقريراته! إذ عندها يكون مفتقرا إلى الصواب الذي يقابله الخطأ. والخطأ هنا لم يكن غير البدع والضلالات.
فعندما يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً، خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً}. فإن المخاطبين بهاتين الآيتين في سورة الكهف لا يعرفون إلا بعلامتين: إخلاصهم له عز وجل، وحرصهم على الاقتداء بسيد الناس وحده لا بغيره، مما يقوي قناعتنا بأن الصالحات التي يبارك فيها باستمرار، لا يتم كسبها إلا بوسيلتين مشروعتين ملزمتين ذكرناهما منذ حين: “الإخلاص” و”الصواب”. أما إن فقدت الأولى، أو فقدت الثانية، أو فقدتا معا في الآن ذاته، فلا حديث حينها عن الصالحات التي تضمن الخلود في الفردوس لأصحابها. كما أنه لا حديث عن البركات التي تجيء وراء إتقان العمل الديني المطلوب.
فإن صح خضوع البركات المادية لأمر الله ونهييه، صح كذلك خضوع البركات المعنوية لأمره ونهيه. وبما أن العلم نِعَم وبركات ومنح إلهية، فقد اتضح لنا -ولو باختصار- كيفية التصرف فيها إن كانت مادية. أما إن كانت معنوية فإن المطلوب أولا وقبل كل شيء هو الجود بها على قدر الإمكان. والجود بها هو إفادة الأقربين والأبعدين بها، كي تزكو بمزيد من الأجر الذي يحصل عليه السخي الكريم لا شك. فنشر العلم نشر للبركة (= إفادة المتلقي بمزيد منه). والتوجيه التربوي نشر للبركة. وممارسة الأخلاق الدينية في السر والعلن باب لتلقي مزيد من البركة. وتقليد نشر البركة واكتسابها، تقليد معروف تعلمناه من المختار لا من غيره، إنه كان يعلم صحبه الكرام كل شيء. ومن جملة ما تعلموه منه، كيفية التعليم ذاتها، فأصبحوا بعده هداة مهديين راشدين. يعني أنهم معلمين موجهين واعظين ناصحين. ولم يقل أحد منهم قط: إن بركاتي تتدفق سيالة على قلوب من أرشدهم إلى سواء السبيل! وإنما أنهضهم كي يواظبوا على طلب العلم الذي يقتضي التعب والترحال والحفظ والتقييد والمراجعة. تكفي الإشارة هنا إلى المجهودات المشكورة التي بذلها كبار المحدثين للذب عن حديث سيد المرسلين، وهم يجمعونه في الإقامة وفي الظعن، استجابة منهم لنداء الله ولنداء نبيه في قلوبهم المشبعة بالإيمان واليقين.
فكان أن مدهم الله بالتوفيق والبركة. ثم ظهر لاحقا من يرغبون في الحصول على بركة غيرهم بالمجان! فهل فعلا يمكن نقل البركة بالمعنى الصوفي الظلامي المتقدم من حي إلى حي؟ ومن حي إلى ميت؟ ومن ميت إلى حي؟ أم إن نقلها بهذه الكيفيات كلها بدع لا أصل لها ولا فصل؟