المقاطعة الشعبية.. وسؤال الترشيد؟

حتما توجد هناك أسباب تعطي عنصر الوجاهة لنهج سلوك المقاطعة الشعبية كأسلوب سلمي للاحتجاج، فالتذمر الشعبي من السياسات العامة بلغ درجة من الاحتقان جراء سلسلة من النكسات السياسية والتلاعبات بإرادة الشعب في مجال التناوب على ممارسة السلطة، حيث تم اغتيال آمال الشعب في إمكانية حصول إصلاح على مستوى الممارسة السياسية النزيهة وفق آليات “الوهم الديمقراطي” التي لطالما بَشَّر بها الجميع حكاما وأحزابا وجمعيات، آمال كبرت مع دعاوى الاستثناء المغربي لكنها دكت دكا مفضوحا بعد أوهام الربيع العربي الذي تم الانقلاب على كل ما اعتُبِر لبرهة من الزمن مكتسبات للشعوب ضد الأنظمة الاستبدادية.
دوخوا الرؤوس وصدعوا أدمغة الناس لعقود طويلة عريضة بشعارات من قبيل: “التناوب على السلطة” و”الانتقال الديمقراطي” و”المسار الديمقراطي” و”قيم الديمقراطية” و”الأعراف الديمقراطية” شعارات جوفاء تستعمل دوما وفقط للمزايدة ضد الخصوم ولا يمتثلها أحد في سلوكه على الأرض، ليبقى الراتع في الثروة يعب المال من الوطن عبا، يحوله إلى أرقام تعلي أرصدة شركاته في البنوك وترفع من مؤشراتها في سوق البورصة.
فبعد يأس عام شديد الأثر، وانتكاسة قاسية ذاق مرارتها الجميع، لم يبق أمام الشعب إلا التعبير بطرق أخرى فكانت “المقاطعة الشعبية” لشركات اتُّخِذت نماذج ارتآى المقاطعون أنها تستحق المقاطعة.
استمرت المقاطعة وأعطت أكلها، وحققت الأثر المرجو منها، واعترف المتأثرون أنهم وجدوا أنفسهم أمام أسلوب جديد للاحتجاج، أسلوب جدير حسب رأيهم بالدراسة لإيجاد طرق لاحتواء أثره وإبطال مفعوله.
المقاطعة الشعبية هي في حقيقتها سلمية لكن لها آثارا قوية، ومآلات لا يمكن التنبؤ بنتائجها، قد تؤثر على الاستثمارات الأجنبية التي هي شرط في أي إقلاع اقتصادي، قد تدمر الشركات المستهدفة بالمقاطعة، قد تزيد من نسبة البطالة وقد وقد، كل ذلك وارد ومحتمل احتمالا شبه مؤكد بالنظر للنتائج الحالية لحركة المقاطعة، حسب ما تفيده الأرقام والتدابير المصرح بها من طرف بعض الشركات التي اكتوت بنار هذه الحرب الشعبية.
علينا أن نعترف أن للمقاطعة تلكم النتائج الوخيمة بل غير ما ذكر من الآثار قد يكون أفظع وأشرس، خصوصا أن الحركات الشعبية التي لا رؤوس لها ولا قادة ولا تنظيم لها غالبا لا يُدرى متى تنتهي ولا كيف تنتهي، لهذا يتجنب الراشدون من الحكام عدم استثارة شعوبهم، والبعد عن تثوير الغضب فيهم، والحرص على تمكينهم من حقوقهم قبل استفحال مشاعر الحقد والتذمر واليأس في قلوب شبابهم.
فإذا سلمنا بالنتائج الوخيمة للمقاطعة، فهل نطلب من الشعب أن يُغلِّب مصلحة البلاد وقوت بعض العباد، ونستجديه أن يؤوب لرشده ويكف عن حربه؟
وهل سيستمع لهذه النداءات وهو على يقين أنه إن فعل فلن يجني شيئا سوى الرجوع إلى الوضعية نفسها التي دفعته لنهج سبيل المقاطعة؟
إننا حقيقة في حيص بيص لا أحد يدري كيف يمكن التعامل مع الوضع الراهن، ولا أحد يدري ما الحل؟
لكن ما هو مؤكد أن من أضرم النيران ملزم بإطفائها، ومن فتح الأبواب ملزم بإغلاقها.
الدولة مسؤولة عن إيجاد الحل لأنها هي المسؤولة عن تردي الأوضاع وعن التفقير والهشاشة المزمنة، وعن سوء توزيع الثروة، وعن إفشال مسلسل الإصلاح، وعن كل ما جرى تحت القنطرة من مياه عفنة، ومن تلاعبت بآمال الشباب المقهور في غد أفضل، هي من جعلت اليأس يكبر في القلوب، والحقد يتملك النفوس.
فهل ندعو المقاطعين لترشيد حركتهم؟
أم ندعو من يسيرون البلاد إلى الرشد في خطتهم وسياساتهم؟
الواقع يدل على أن الترشيد الذي تطالب به حركة المقاطعة مرهون بانتهاج الرشد من طرف الدولة كشرط للتراجع عن قرار المقاطعة.
لكن رغم إغراء هذا المطلب ووجاهته قد يكون غير واقعي، فالرشد في الفرد الواحد يتطلب ثمانية عشر سنة، فكيف يمكن اشتراطه في الدولة حتى يتم التراجع عن خيار المقاطعة؟
وما يزيد من عدم واقعيته هو أن الرشد مكلِف لكل البنيات التي يتموقع الفساد فوقها ووسطها، ويقتضي تفكيكها على مهل، إذ كيف يرشد من ألِف الاستفادة من ناعورة الفساد؟ وكيف يفرط في الثدي من أدمن الرضاع ويَقبل بالفطام طوعا؟
لكن بغض النظر عن زمن تحقق الرشد في جانب الدولة، وعن صعوبته الكبيرة في التحقق لاقتضائه ثورة هادئة للنظام على بنيات الفساد التي أصبحت جزء منه من الناحية العضوية، بغض النظر عن هذا كله يتبادر إلى الذهن سؤال: هل هناك إرادة لوضع خطة الرشد مبدئيا عند من يحسم في قرارات الشأن العام؟
وحتى لو افترضنا وجودها فتبقى مجرد نية يصعب إثباتها، وحتى لو تم إثباتها هل هناك إمكانية لإقناع المقاطعين بها في ظل هذا الاحتقان وهذا اللاتجاوب؟
وهل إذا وجدت إرادة الرشد وتوفرت الإمكانية فمع من سيقع التفاوض؟
هذه الأسئلة المتناسلة تدفعنا أيضا إلى التساؤل مرة أخرى: من يتزعم حركة المقاطعة ومن يمثلها عند اقتضاء الأمر للحوار مع الدولة؟
الخطير في حركة الغضب الشعبية وكذا كل ردود أفعال الشعوب أنها تنشأ دون رأس؛ بل هي أساسا تنشأ لأن الفساد قطف رؤوس الوطن أو سجنهم أو أهانهم، تنشأ بعد فقدان الأمل والإحساس بالرغبة الملحة في الانتقام ممن كان سببا في حالة اليأس المزمن.
إننا أمام معضلات أفرزتها عقود مديدة من العبث السياسي، وقد تكون المقاطعة الشعبية السلمية آخر وضع آمن لكنه ينذر بالأسوء.
إن الدولة اليوم في أزمتها مع المقاطعة الشعبية تحتاج إلى أولئك الرجال المحترمين الذين همشتهم وعملت جهدها من أجل إزاحتهم من مواطن القيادة، تحتاج الدولة اليوم إلى قادة حقيقيين يلقي إليهم الشعب بسمعه ويثق فيهم وفي مؤسساتهم ويمتثل توجيهاتهم.
إن انتهاج سياسة إسقاط الرموز وتدجين الزعماء واغتيال القادة الحقيقيين أدبيا بتشويه سمعتهم وتدمير مكانتهم، والاستحواذ على المؤسسات السياسية التي تنظم الشعب، وخلق مؤسسات زنيمة وظيفية تقوم مقامها، هو أسلوب قد يحقق المقصد للفساد، لكنه تحقق مؤقت سرعان ما تنقلب نتائجه وبالا على من انتهجه سبيلا لضبط الشعوب والحد من حركيتها.
فالساسة الأغبياء دائما يرون في شعوبهم العدو النائم الذي يجب أن يبقى مغيبا، لذا تكون هِمَمُهم متجهة نحو المكر والتخطيط الخبيث والتآمر على الإرادة الجمعية، في حين تتجه هِمَم الساسة العدول الأذكياء إلى الاستفادة من القوى الشعبية وتوظيفها كقوة دافعة نحو الإصلاح والنمو والازدهار، وما ذلك إلا لكونهم ينظرون لشعوبهم أنها صمام الأمان، ولا أمن دون أمنها، ولا رفاهية دون رفاهيتها، فيتخذون لذلك العدل سبيلا، ويوفرون الكرامة للجميع فيعم السلم الاجتماعي وينجو الجميع من حرائق الثورات بعد تقسيم عادل للثروات.
فمتى يبلغ ساستنا سن الرشد السياسي؟؟
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
إبراهيم الطالب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *