القطرة الثانية:
…على بدء متصل بسابقه، ورجوعا إلى السياق القرآني حيث تتسابق الأحداث في سرد تسارعي يحكي بالمقطوع أن أوّل ما قابل به يوسف عليه السلام مطلوب ورغبة امرأة العزيز، وقد أحكمت إقفال الأبواب ووضبت مسرح الجريمة ثم نبست بما يفيد أنّها صارت محروزة عن أعين الناس والمخالطين من الخدم والحشم حيث قالت “هيت لك”، هو ردّه عليه السلام في صدق استعاذة، وخشية من الله، ومخافة أن يسقط من وفد المفلحين فيكون في وِرد الظالمين، وتوقيرا منه لصاحب القصر الذي آواه وأحسن مثواه “معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون”، وفي قوله هذا لطيفة يستدل بها على أن للطبع والمروءة حظهما من الاعتبار كوازعين حاملين مساعدين على الترك للمنهي عنه بالشرع أصالة ونقاوة الفطرة تبعا، وهذا ما يشير إليه قول يوسف عليه السلام “إنه ربي أحسن مثواي”، وإنّما كان من كمالات السياقات القرآنية، وعظيم المعاني البلاغية أن يأتي وازع الطبع ذلك معطوفا رديفا للأوْلى المُقدم في الاعتبار ونقصد به الوازع الشرعي المتمثل في قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام “معاذ الله”، وكيف لا والمتلفظ بهما نبي كريم يستبرئ لدينه معاداة للشهوات أولا ثم لعرضه ثانيا اتقاء للشبهات.
كم يا ترى يحتاج هذا العبد الصالح، المخلص، الصادق، الحكيم، العليم، الحفيظ، الأمين، المحسن، كم يحتاج من الوقت والزمن حتى ينقلب ويتمرد وينسلخ عن ثوب العفة التي تنضح به تلك المقدمة الصادقة الملأى بالاستعاذة والاستجارة بالجناب الإلهي، وقد دل السياق أن سيل الأحداث كان متسارعا مهتبل اللحظات من طرفها وقد أثثت معالم اختلائها، نعم كم كان يحتاج يوسف عليه السلام من الوقت حتى يُخرج من قلبه ذلك القبس التربوي الذي هيّأه الله عليه منذ الرؤية الأولى إلى غيابات الجب وظلم الإخوة المتشاكسين في إبعاده حسدا منهم على مكانته وقرب منزلته عند والده يعقوب عليه السلام، وصولا إلى قصر العزيز…
فهل كانت تلك البرهة من الزمن كافية لنقله من صدق الإحساس إلى زوره، ومن خشية الله إلى التجاسر على محارمه في أبشع صور الخيانة، ومن عفة الأنبياء إلى نذالة السفهاء، ومن منقبة الوفاء إلى مثلبة الشقاء.
إنه انتهاك صارخ، وهتك صافق لعِرض السياق بين مطلعه الصفي النقي، ومزاعم مقطعه الضارب في عُرى الخيانة لله، ولحرمة سيد ربّاه وأكرم وفادته وأحسن مثواه، وقد جاء في نصوص ديننا ووحي نبيّنا عليه الصلاة والسلام ما يُستفاد منه تغليظ إباق العبد من سيّده، ففي رواية عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أيّما عبد أبق، فقد برئت منه الذمة” وعنه أيضا عن النبي عليه الصلاة والسلام “إذا أبق العبد، لم تقبل له صلاة” وفي رواية “فقد كفر” رواهما مسلم.
وللمسلم المنصف المتجرد للحق وطالبه أن يبسط ويُعمل فعل المقارنة في دائرة السوء، مميّزا بفطرته ودينه عن أيّهما الأسوء، هل كان العبد الآبق من سيّده؟ أم المُخاني بحليلة جاره أو حتى المتماهي في حدود الهم بفعل الفاحشة مع حليلة سيّده؟
إن تصوير همّه مماثلا لهمّها في الحال والمقال وهي من هي؟ وهو من هو عليه السلام؟ ليُعَدُّ قدحا وخرقا لميثاق النبوة، واعتداء سافرا على مفهوم العصمة التي انطبعت بها سيرة الأنبياء والمرسلين منذ آدم عليه السلام وإلى نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنهم معشر الأنبياء إخوة لعلات كما جاء في رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد”.
ولذلك فإنها والله وبالله وتالله لعصمة يُعارضها مجرد حديث النفس، بل وتقدح في نصع بياضها خاطرة السوء، فكيف من باب الأولى ما عُلم شرعا وعرفا وطبعا أنه تناهى في الشناعة والقبح، وكان المراد به الهمّ بمواقعة الزنى وارتكاب الفاحشة وتسوّر محراب حمى الناس في بغي وخيانة، وقد علمنا من منطوق نهي النص هاهنا “ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا”، ولا شك أنه نهي أبلغ في المراد وأكثر تشديدا لأنه جاء مستوعبا للمقصود والوسيلة إلى ارتكابه، وهذا له مثيل نجده في نهي الله سبحانه لأبينا آدم وأمنا حوّاء عن الأكل من الشجرة إذ قال سبحانه “ولا تقربا هذه الشجرة…”.
ولذلك كان مجرد القرب من مجال هذه الجريمة والخوض في مقدماتها فاحشة وقد عُلِم أنها ساءت سبيلا، ثم انظر إلى ضميمة ما انضاف في سياق الآية التالية من سورة النساء ونعني بها ضميمة “مقتا” التي تفيد الزيادة في الإنقاص والتحقير في شأن من نكح ما نكح أبوه ـ والنكاح هنا معناه الزواج ـ ، إذ قال الله جل في علاه “ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا” فكيف بمن همّ أو مالت نفسه لمواقعة الحرام من امرأة من ربّاه وأكرم نزله وأحسن مثواه وكان في مقام والده؟؟؟
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عن أي الذنوب أعظم، فيقول عليه الصلاة والسلام 🙁 أن تجعل لله ندّا وهو خلقك) فيسأل ثم أي؟ فيقول: (أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك) ثم أي؟ فيجيب عليه الصلاة والسلام: (أن تُزاني حليلة جارك).
فإذا علمنا من الرواية أن حق الجار عند أيّها الناس أكبر وأعظم، وأن من اعتدى على حرماته كان ذلك عند الله أسوء وأحقر وأعظم ذنبا، فكيف بحقوق من ربى وأحسن وأبر واتخذه ولدا، وكيف في المقابل بنبي مُعظم، أمين، مخلص، محسن، كيف وأنّى له أن تتحرك فيه زغبة من خاطرة سيِّئة مُردية، وقد عرفنا أن صغيرة الرجل الذي يُقتدى به كبيرة، وقد علمنا أن هذه القدوة وذلك الرجل إنّما هو نبي من المصطفين الأخيار.
وعليه قد ورد وجاء بالقطع ما يفيد اتفاق الشرائع السماوية حول مسألة أن الحرام الواحد قد يُغلّظ في عقوبته متى ما اجتمعت فيه أو انضافت محتفة به قرائن ومعطيات أخرى تكون هي من جنس المكروهات أو حتى نوعها، ولعل هذا بيّن واضح في ما سقناه أعلاه من أمثلة لها وزنها في القرآن الكريم، كما لها اعتبارها الوازن الثقيل في السُّنة الثابتة الصحيحة.
يتبع مع القطرة الثالثة:
وفيها ومن خلالها نبسط الكلام مُستقرئين عبارات السياق وإشارته المتعلقة بإحكامها لإقفال الأبواب، واستباقهما الباب في لحاق محموم، وملاقاة سيّدها بترتيب وتعقيب له إحالاته…