مازلنا نتحدث عن الأخطاء اللغوية الشائعة بين الكتاب والباحثين وطلبة العلم، الأخطاء التي لا يسلم منها في العادة إلا من وطَّن نفسه على تجنبها، وتيقظ أثناء حديثه وكتابته كيلا يقع فيها، وعمل عن قصد على مخالفة الألفاظ المترجمة حرفيا عن لغات أجنبية؛ إذ إن ذلك يزيد من مروءة المؤمن المعتز بلغة كتابه، الساعي إلى امتلاكها نطقا وتدوينا.
إن كثيرا من الشيوخ الكرام الأفاضل في العلم، لا يتنبهون إلى مثل تلك العبارات وهم يخطبون أو يكتبون، مع أن الأصل فيهم هو امتلاك أسلوب السلف الصالح من كتبهم كما امتلكوا علومهم التي أوصلوها إلينا غضة طرية، وفوق كل ذي علم عليم.
وشيوخنا وأساتذتنا أجل وأعلم بلغتنا العربية منا -نحن المبتدئين- إلا أن اتساع العلم وترامي أطرافه وتقسيماته، يجعل أشياء قد تغيب عن العالم الجليل، ويعرفها طويلب العلم الشادي، وهو ما يوجب على من عرف مسألة أن لا يكتمها، وأن يؤدي حق العلماء عليه، الذين علموه وفهموه وكانوا سببا في رجوعه إلى الله.
إنه لا فضل لنا في هذه المقالات إلا جمعُ ما تناثر في هذا الكتاب أو ذاك مما قد لا يتاح لأي باحث، مع علمي التام بأن هناك رجالا عظماء علماء متقنين، كانوا سيفيدوننا أكثر في هذا الموضوع، فصدق علينا قول العرب قديما: “إن البغاث بأرضنا يستنسر”، غير أننا نرجو من وراء كل ذلك أجرا يُدخر لنا يوم نلقى الله تعالى، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وتعلم فصيح اللغة العربية وإرشاد القارئ إلى ذلك؛ يدخل في صميم الإيمان بعد توفيق الله وتيسيره وقبوله.
يقول العلامة تقي الدين الهلالي رحمه الله تعالى: “وقد بدا لي أن أكتب مقالات في هذا الموضوع، أداء لواجب لغة الضاد، وصونا لجمالها من الفساد، راجيا أن ينفع الله بما أكتبه تلامذتي في الشرق والمغرب وفي أوروبا، وأنا على يقين أنهم يتلقون ما أكتبه بشوق وارتياح، وكذلك رفقائي الكتاب المحافظون يستحسنون ذلك. أما الكتاب الذين يكرهون التحقيق ويرخون العنان لأقلامهم بدون تبصر ولا تمييز بين غث وسمين، وكدر ومعين، فإنهم سيستثقلون هذا الانتقاد، وقد يعدونه تكلفا وتنطعا وتقييدا للحرية -بزعمهم- فلهؤلاء أقول: إني لم أكتب لكم، فما عليكم إلا أن تمروا على ما أكتب مرور الكرام، وتدعوه لغيركم، الذين يقدرونه حق قدره..” .
إن الإعجاب بلغة الأعاجم وضعفَ الاطلاع على اللغة الأم (العربية) أمران قد ظلما اللسان العربي المبين بإدخال ما ليس منه فيه، وطمس كلماته وعباراته البليغة الجزلة واستبدال غيرها به، وذلك فعل المترجمين الأوائل والصحفيين المتغربين، والمثقفين المنبهرين والمفتخرين بلغة الأقوام الآخرين.
فمن ذلك قولهم: جاءتني رسالة من طرف المسؤول الفلاني، وهي ترجمة حرفية للعبارة الفرنسية de la part شاعت في أوساط الصحافة والإعلام المرئي والمسموع، بل قد انتشرت بين طلاب علم العربية، الذين هم حماة لغة الضاد البينة، وهو أمر يدل على انشغالهم بلغة الجرائد، وتركهم القراءة في كتاب الله وكتب الحديث الشريف الكثيرة، وكتب الأدب وفقه اللغة، التي تكسب الإنسانَ بيانا وتوشح أسلوبه بجمال العربية ورونقها وبهائها.
ولو نظروا في كتاب الله تعالى لوجدوا قولَه: {تَنْزِيل الْكِتَاب لاَ رَيْبَ} (الواقعة/83)، ثم قالوا: جاءتني رسالة من فلان..أو نظروا في قوله جل في علاه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء/192)، فقالوا: جاءتني رسالةُ فلان.. بلا حرف الجر (من)، وهما -كما ترى- عبارتان راقيتان بليغتان، يكفيهما شرفا وبيانا نزولُ كلام الله تعالى بهما.
وإذا أراد المرء تنويع عباراته كيلا يمل القارئ من تكرار نفس التراكيب اللغوية، فإنه سيجد في كتاب الله توسعة لغوية لا مثيل لها في سائر الكلام العربي؛ ففي بداية سورة هود قولُ الحق سبحانه: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود/1)، وليس: من طرف حكيم خبير !! وعبارة (من لدن) وردت في القرآن الكريم ست عشرة مرة لمن شاء معرفة ذلك.
يقول ابن فارس رحمه الله توضيحا لعبارة (من لدن): “{لدن}، اللام والدال والنون كلمة واحدة، ولدن بمعنى لدى، أي: عند” ، والقائل لعبارة: وصلتني رسالة من طرف فلان.. يقصد: من عند فلان. إلا أنه وظف عبارة أجنبية (de la part) وترك لغته الأصلية السامية، وهذا -كما ذكر الدكتور الهلالي رحمه الله- شأن من لا يلقي بالا للغته الأم، ولا يتأدب بلسان القرآن الكريم.
وهاهنا جملة قرآنية أخرى تعبر عن نفس معنى (من طرف)، يغفل عنها كثير من الفضلاء الدارسين، جاءت في قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} (الحديد/13)، أي: من جهته العذاب، يقول الطاهر بن عاشور: “و(قِبَل) بكسر ففتح، الجهة المقابلة..” .
يظهر أن لغتنا الرصينة مليئة بالتراكيب والكلمات الفخمة البليغة، بيد أنها تحتاج من أبنائها أناسا غيورين عليها يرفعون شأنها من جديد؛ بالبحث والتفتيش في كنوزها المغمورة، ثم بإدراجها في إنشاءاتهم وكلامهم، وفي ذلك -بعد توفيق الله- إحياء لها وافتخار بعظمتها.
لطيفة
وقد أحببت أن أتحف إخواني من طلاب العلم الشرعي بلطيفة غفلنا عنها سنين طوالا، ذكرها ابن الجوزي رحمه الله في كتابه القيم “تقويم اللسان” وهي قوله: “وتقول في اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر: هذه أيام البيض؛ أي: أيام الليالي البيض، وسميت هذه الليالي بيضًا، لطلوع القمر من أولها إلى آخرها. والعامة تقول: الأيام البيض، حتى إن بعض الفقهاء جرى في كتبه المصنفة على عادات العوام في ذلك، وهو خطأ؛ لأن الأيام كلَّها بيضٌ” .
فانظر -رعاك الله وسدد خطاك- إلى دقة ملاحظة السلف الصالح رحمهم الله، وحرصهم البالغ على أن تُؤخَذَ المعلومة صحيحةً لا خلل فيها، وإن كان بعض الفقهاء قد يغفل عن مثل هذه الإشارات اللغوية اللطيفة .
وللكلام تتمة بحول الله وقوته.