نعم أيها السادة.. لا نريد حكومة، رضينا بالقِرَاب.. رضينا بالنِّعال..

إبان الاحتلال العلماني البغيض، كان المغاربة يحلمون بالاستقلال، يقاتلون ويدفعون أبناءهم إلى المهالك حتى ينجلي ليل الظلم، ويعيش المغاربة في كرامة وعدل.
خرج الاحتلال من الباب، ورجع من النوافذ، ومنذ خروجه بدأ القتال والتناحر والاعتقال والتعذيب، من مُعتقل بريشة إلى تزمامارت، ومن درب مولاي الشريف إلى معتقل تمارة، من 1956 إلى 07 من أكتوبر 2017، مسيرة طويلة من الدماء والسجون والقهر والتعذيب.
لكن الشيء الوحيد الذي صاحب صوت البنادق وصرير السلاسل هو الشعارات وعبارات المطالب.
فالجميع يتحدث منذ عقود سحيقة عن “الإقلاع الاقتصادي” عن “التقدم” عن “الديمقراطية” عن “العدالة الاجتماعية” عن “العدل”، عن “حقوق الانسان”، عن “التوزيع العادل للثروات” عن “السلم الاجتماعي” عن “الكرامة”، عن “الحرية”…
كلمات براقة، لها رنين حلو كتغريدات أمهر العصافير شدوا، تريح المستمع الحالم، وتزيد من أسهم تجار السياسة.
تتعاقب الحكومات وتتناسل الأزمات وتتوالى المظاهرات والتظاهرات، وتذيع النخب ملايين الخطب، في البرلمان والمجالس الحكومية والأحزاب والجموع الخاصة والعامة.
إسهال فَمَوي وهذر طويل كهدير قطارات القرن 19؛ ضجيج ودخان مع بطء وصداع.
ثرثرة، لغو، كلام يسبقه كلام ثم يتلوه كلام.
تتوالى الكلمات حتى تسلخ جلد المعاني ويضيع الناس في بحار اليأس.
فهل يبقى معنى للعدل عندما يجد المظلوم نفسه مضطرا للوقوف أمام قاض ظالم قد ملأ جرابه العفن من رشاوى الظالمين، ثم ينطق بالحكم؛ ليأخذ من الضعيف عقاره أو ماله، ويعطيه للراشي القوي بالفساد، أو يسلب حريته فيحبسه ويبرئ الجاني المستقوي بالظلم على المظلوم.
ثم يلجأ هذا المنهوك المقهور باكيا شاكيا إلى الملك أو الوزير أو الأمير بلا فائدة؟
وهل يبقى معنى للعدل عند أب اغتصبت ابنته، فسجنت نفسها في البيت، وبينما ينظر إليها كئيبة مريضة مهمومة، وقبل أن يندمل جرحها إذ به يلتقي بمغتصب فلذة كبده، يمرح أمام عينيه بعدما قضى نزهة لمدة سنتين في سجن من سجون المملكة الشريفة؟
هل يبقى معنى للعدل في نظر المئات من الشباب يقضون عقوبات حبسية طويلة على ذمة ملفات لازالوا لم يعرفوا كيف أدرجت أسماؤهم ضمنها؟
وهل يثق الفقير الذي تتناوب الأمراض على جسمه النحيل بشعارات العدالة الاجتماعية عندما يقطع مئات الكيلومترات ليصل إلى العاصمة، فيبيت قرب المستشفى العمومي الليالي ذوات العدد، وعندما يراه الطبيب يُعلِمه بأن حالته متدهورة وعليه أن يجري فحصا بالأشعة، ثم يخبره الممرض أن موعد “السكانير” بعد ستة أشهر؟
حالة متدهورة وانتظار لستة أشهر!!!
وهل يبحث المقهورون عن العدل والعدالة في مؤسسات ليس لها من هذه الأسامي سوى ما يُعلَّق فوق أبوابها للدلالة على مقرّاتها.
ثم بعد ذلك تنمق عبارات مثل “الحوار الاجتماعي”؟
عن أي “حوار اجتماعي” نتحدث ونصف مجتمعا يرى نفسه منبوذا لا لشيء إلا لأنه أظهر معالم التمسك بأحاديث اللحية وآيات الحجاب ومقتضيات الإسلام كما يخبره العلماء والفقهاء؟
مديرون وأطر نزيهة أمضت أعمارها تكد وتجتهد وتبني وطنا وتنشِّؤ عقولا، ثم تتفاجأ بأنها أعفيت من مناصبها لا لشيء سوى لأنها تنتمي إلى مجموعة صنفها من يريد “جماعة متطرفة”.
ظلم وتهميش وإقصاء جعل أمهات وآباء في مجتمعنا المغربي وبلدنا المسلم، يمنعون بناتهم من ارتداء الحجاب وأبنائهم من إسدال اللحى لأنهم يعلمون أن أغلب المباريات التي سيتقدمون لاجتيازها سوف يقصون منها، لأن مظهرهم مظهر المتطرفين وسمتهم يشي بأنهم إسلاميون ويصنفون في نظر من يمارس السلطة متطرفين.
عن أي “حوار اجتماعي” نتحدث؟
ومَن سيحاور مَن؟
المغاربة ينتظرون أن تتولى شأنهم حكومة أفرزتها انتخابات شاركوا فيها، لا أن يُولَّى عليهم الفاسد ومن طرده أغلب الناخبين.
الناس رضوا بنتائج الانتخابات رغم أنها مرت مأزومة، استخدم فيها المال القذر، والجاه المتسلط، حتى لا تفرز أصحاب اللحى، ثم رغم كل شيء نطوا من بين يدي “الساحر” الذي أراد أن يمسخهم أحصنة وطيورا، نطوا رغما عن سحره مصابيح وكتبا.
ثم أرادوا أن يقتربوا من الميزان لكن التاجر هذه المرة أراد أن يبيع السياسة “صُوبّة” وبالفصحى صبرة، دون كيل أو ميزان، أراد أن يكيلها لصاحب الغاز والزرع والضرع، معلنا أن الزمن المخصص للضوء والمصباح قد انتهى، فلنعد إلى الظلام، وسياسة الكلام، والحديث عن لا شيء سوى أمن النظام، وقليلا من “الديمقراطية” -المزعومة في خطاباتنا- والسلام.
إن من يوزع الأدوار اليوم على مسرح السياسة يقول للحالمين الذين صدّقوا أن “الوطن” الكريم يستحق الإصلاح: إن صلاحيتكم من أجل تثبيت الاستقرار قد انتهت، ودوركم قد أديتموه، فاعرفوا قدركم، والزموا حَدَّكم. خمسُ سنوات من المناورة، تلتها خمسة أشهر من المبارزة؛ لم يسقط أحد في المعركة، الناس يحملقون، أيديهم على قلوبهم: من يسقط؟
من سيفوز؟
قوم هنالك في حزب البام أو “البوم” أفتوا بأن الأمر لا يحتاج كبير عناء؛ قالوا: “نقرأ الدستور كما نقرأ قصيدة نزار، أو أنشودة “منبت الأحرار”، نشطب قول الصناديق، وننادي كل حبيب وصديق، ونشكل حكومة بالأحزاب التي لم تفز، ونختار وزراءها من النواب الذين صعدوا إلى القُبة عبر أصوات هراوى المقدمين والقياد، وسحر “الحَبَّة”.
لكن تمهلوا أيها السادة، هل يُرْضِي هذا “الديمقراطيين العلمانيين العقلانيين الحداثيين” أم لا؟
اسكت يا صاحبي؛ ألمْ تعلم أن “كل الديمقراطيين” صاروا رجعيين سلطويين، تستوي عندهم أصواتٌ تجمعها الصناديق مع أصوات تجمعها هراوى المقدمين والقياد. المهم يا صاحبي ألا يحكم الإخوان؛ ولو اقتضى الأمر سيغني كل الديمقراطيين لنا “تسلم الأيادي”.
أليس خيرا لهم أن نشطب قول الصناديق بدل أن نُسمعهم في الساحات صوت البنادق؟
المهم ألا يحكم أصحاب اللحى؛ فمنظرهم يجعل الدنيا علي تضيق.
قالت الجماهير: نعم يا أيها السادة؛ لا للبنادق، تبا للصناديق وليسقط الأخ والصديق، وعاشت جحافل “الديمقراطيين” زعماء التبنديق.
استدركت الجماهير واستعطفت وقالت: لكن من فضلكم أيها السادة؛ أشفقوا على الأرامل والأيتام، فقد ضايقهم في قوتهم اللئام، قولوا لهم:
“يكفي الغاز والبقر والشجر،
اتركوا شيئا للبشر،
اتركوا لهم ولو شيئا من “الحجر”.
تذكرت الجماهير أن أصدقاءهم يحبون “الحجر”،
فمنه يستخرجون “الفوسفاط” و”الرخام” ويحفرون مقالع “الرمال”.
رجعت لنفسها وقالت:
لا لا لا، أستغفر الله؛ لننسى الحجر،
لكن عندي حل:
دعوا للناس فقط “جلود البقر”،
حتى يصنعوا القِرَاب والنّعال فطريقكم كلُّها حفر.
صدر الأمر لصاحب “الغاز والزرع والشجر والبقر” أنه:
كلما ذبح أبقاره، يرمي للناس جلودها.
صاح الناس لتحيى وتعيش؛
لكن لا نريد أن نسمع بعد اليوم حديثا عن “الديمقراطية” أو “العدل” أو “الكرامة”، ولا نريد أن نسمع هرطقات عن “دولة الحق والقانون” ولا عن “الحق” و”العدالة”.
فقد تُبنا من النضال ورضينا من الحكم والحكومة بالقِرَاب والنعال.
هكذا قالت الجماهير، وأعوذ بالله من قولها.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
إبراهيم الطالب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *