إن تحريف الشريعة كان له الأثر الأكبر في تكون النفسية الغربية ومفهومها للدين، وكان العامل الأهم في قيام الثورة ضد الكنيسة، والمناداة بفصل الدين عن الحكم؛ لذا لم يكن تحريف الشريعة النصرانية بالأمر الهين الذي يمر مرور الكرام عبر ذاكرة التاريخ، وإنما كان تحريف الشريعة هو الشرارة الأولى لبدء السير نحو فصل الدين عن الدولة.
التصورات الرومانية القديمة عن مهمة الدين في الحياة
يقول أبيقور[1]: [إن الآلهة يعيشون بعيدًا عن العوالم، ولا يهتمون إلا بشؤونهم؛ فلا تعنيهم أمورنا، إنهم يعيشون حكماء سعداء، ويعظوننا بهذا المثال الذي يجب أن نسير على منواله، فلنعتبرهم كمثل عليا يُقتدى بها، غير أنه يجب علينا ألا نشغل أنفسنا بما يريدونه منا، فإنهم لا يريدون منا شيئًا، فهم لا يعيروننا بالاً؛ فلنفعل نحوهم كما يفعلون نحونا].
هذا التصور للآلهة تشترك مع أبيقور فيه الغالبية العظمى من الرومان، ومن الطبيعي جدًا أن ينشأ عن هذا التصور الخاطئ للإله تصور خاطئ لمهمة الدين في الحياة، وواجب المخلوق تجاه خالقه.
وبما أن آلهة الرومان بطبعها لم تكن لتشرع لهم شيئًا، فقد كان من الضروري أن يقوم بشر متألهون بمهمة وضع نظم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، ونتيجة لجهود هؤلاء برز إلى الوجود [القانون الروماني]، الذي لا تزال أوروبا تعيش عليه أو على امتداده إلى اليوم، أما النظم الأخلاقية وقوانين الآداب العامة -إن وجدت- فقد كانت أبيقورية محضة.
هل تغير الأمر عند النصرانية الأوربية؟
وبالنسبة للذين اعتنقوا النصرانية من المواطنين الرومان؛ فإن التصور السابق عن الدين ومهمته في الحياة لم يتغير، وكان التغيير الذي طرأ عليهم هو إحلال مسمى [الأب، والابن، وروح القدس] محل [جوبيتير، ومارس، وكورنيوس]، فما كانوا ينتظرون من آلهة بولس وكنيسته من تشريع وتوجيه، ولم يكن مقام الأب الذي نادت به الكنيسة ليزيد عن مقام جوبيتير الذي صوره أبيقور.
ولقد عبر أحد المؤرخين الغربيين عن ذلك بقوله: [إن “المسيحية” لم تكن عند أكثر الناس غير ستار رقيق، يخفي تحته نظرة وثنية خالصة إلى الحياة][2].
مساهمة الكنيسة في تحريف الشريعة
وبمرور الزمن أصبح هذا الانحراف منهجًا مقررًا اعتمدته الكنيسة بعد مجمع نيقية (325م)، ففصلت بين العقيدة وبين الشريعة، بين الدين والدولة، وقسمت الحياة البشرية دائرتين مغلقتين:
الأولى: [دينية] من اختصاص الله، ويقتصر محتواها على نظام الإكليروس[3] والرهبنة والمواعظ، وتشريعات طفيفة لا تتعدى الأحوال الشخصية.
والأخرى: [دنيوية] من اختصاص قيصر وقانونه، ويحوي محيطها التنظيمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلاقات الدولية، ونظم الحياة العامة.
وكانت الكنيسة تعمد إلى عبارات تنسبها الأناجيل إلى المسيح عليه السلام، لتقرر منها قواعد أصولية تؤسس عليها دينها المحرف، دون مراعاة لمنطق الاستدلال ومقتضى التحقيق العلمي، مثل “أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله”[4]، و”إن مملكة المسيح ليست في هذا العالم”[5].
ولا يعني هذا أن الكنيسة لم تمارس سلطات سياسية أو نفوذًا اجتماعيًا، فقد كان منها ما لم يكن من أعتى القياصرة [6] لكن هذه الممارسة تظل محدودة بنطاق المطامع الشخصية لرجال الدين[7].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أبيقور [341 ق. م ـ 270 ق. م] هو مؤسس الأبيقورية وهي من أمهات المدارس التي رفضت الدين وما يتعلق به من معتقدات جملة وتفصيلاً، بل رأوا أن السعادة الحقيقية لبني البشر لا تتحقق إلا في حالة الانسلاخ عن الإيمان بالله، ومحاربة جميع ألوان التدين مطلقًا.
[2] تاريخ العالم، [4/330].
[3] نظام الإكليروس [Clergy]، وهو ما أطلق على “خَدَمِة الدين النصراني” ويبدأ من البطريرك ثم المطران ثم الأسقف ثم القسيس….. وهكذا.
[4] وهذا القول -مع عدم القطع بنسبته إلى المسيح عليه السلام- لا يمكن أن نفسره بأن المسيح يدعو إلى الإشراك بين الله وقيصر، خاصة وإذا تم وضعه في إطار طبيعة الظروف التي نشأت فيها دعوة المسيح عليه السلام.
[5] وهذا القول -مع عدم القطع بنسبته إلى المسيح عليه السلام أيضًا- فسرته الكنيسة أن الدنيا والآخرة ضرتان متناحرتان وضدان لا يجتمعان، وأنه إذا كان الأمر كذلك ففيم العناء لإصلاح الدنيا؟ فتركت الحكام والجبابرة يتحكمون في الأرض كما شاءوا، ولا يمكن أن يفهم الأمر كما فهمته الكنيسة، وخصوصًا -إذا فرضنا جدلاً أن تلك العبارة صحت نسبتها إلى المسيح- إذا تم قراءة ما بعدها بقليل، مما يفيد أن هذا الكلام قاله المسيح خلاصًا من المكيدة التي دبرها له اليهود.
[6] سيأتي الحديث عن ذلك بالتفصيل في مقالات قادمة.
[7] وهذا المصطلح [رجال الدين] من المصطلحات المستحدثة في النصرانية، والصحيح أن يقال علماء الدين، لأنه ليس هناك رجال للدين ورجال للدنيا.