لقد من الله على أمة الإسلام بحفظ دينها عليها وذلك بحفظ القرآن وسنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم, وإذا كان الله تعالى قد تكفل بحفظ كلامه في صدور أهل العلم جيلا بعد جيل، وبين دفات المصاحف فقد يسر سبحانه كذلك أسبابا لحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لما للسنة من أهمية بالغة في شرع الله جل وعلا، فهي ملازمة للكتاب مفسرة له مبينة لمقاصده, فكان من جراء ذلك أن بقيت صفات وأقوال وأفعال وتقريرات رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوظة مصونة للأمة على مرّ الأجيال نستفيد منها الهدي القويم والخلق السديد، وستبقى كذلك إلى قيام الساعة إن شاء الله، فلم تعن أمة من الأمم بنبي من أنبيائها ولا بعظيم من عظمائها كما اعتنى علماء الإسلام بهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ولقد كان من أعظم الأسباب التي يسرها الله تعالى لحفظ سنة نبيه نشأة علوم الحديث, هذا النشوء الذي استدعاه انتشار السنة نفسها وتشعب الأسانيد وطولها وفشو الكذب وافتراق الأمة شيعا وأحزابا.
ومن المعروف أن الله تعالى خص أمة الإسلام بعلوم الحديث، فلم يحفظ اليهود هدي موسى عليه السلام بالأسانيد، ولا صان النصارى سنة نبي الله عيسى عليه السلام، فضلا عن أن يكون لقومهما علوم خادمة لهديهما, وقد قيل إن أصح إسناد عن النصارى فيه انقطاع يبلغ ثلاثمائة عام, ولا شك أن الأمة خصت بعلوم الحديث لأن دينها نسخ عامة الأديان السماوية التي كانت قبله، ولأن الله أراد الخلود والكمال للإسلام إلى قيام الساعة دون غيره.
خلال فترة البعثة المحمدية التي امتدت لثلاث وعشرين سنة كانت سنة نبينا عليه الصلاة والسلام قد أنزلت منزلتها اللائقة بها, وعلم الصحابة الأجلاء آنذاك أن لا سبيل لرضى الهي عز وجل والفوز بسعادة الدارين إلا بكلام الله تعالى، وببيان نبيه صلى الله عليه وسلم، ولقد كان عندهم ـ رضي الله عنهم ـ حرص كبير على الاقتباس من نور النبوة، وعلى الإصغاء لنبيهم بالقلوب قبل الأسماع، وعلى الالتفاف حوله بالأرواح قبل الأجساد, فما تركوا من هديه قولا إلا ونقشوه في قلوبهم، ولا فعلا إلى وضبطوه في صدورهم، وأظهروه على جوارحهم، لأنهم أيقنوا أنه معلم الناس الخير فتتلمذوا على يديه، وعلموا أنه سيد ولد آدم فعرفوا منة الله عليهم أن اصطفاهم لصحبته، فعظموه ووقروه وبجلوه, وعلموا أنه رسول الله حقا فلم يتقدموا بين يديه فلله درّهم.
فلما كمل الدين وتمت النعمة وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ونزل قول الله تعالى: “إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً”, إعلاما بقرب أجل رسول الله الذي التحق بأبي هو وأمي بالرفيق الأعلى، وانقطع الوحي, عندها علم الصحابة عظم الأمانة التي عليهم تجاه الأمة إذ كانوا الواسطة بينها وبين نبيِّها في تبليغ هديه، وأدركوا خطورة الأمر وأنه تكليف وأي تكليف، وأنه حمل ثقيل تنوء بمثله الجبال, فشمروا عن سواعد الجد وعزموا على نشر الدين وتبيلغ الدعوة ونشر الهدي النبوي، مما زاد من عظم المسؤولية الملقاة عليهم ـ رضي الله عنهم ـ علمُهم بوجوب التوثق في الأخبار، والتحري في قبول ناقليها، من ذلك قول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ” الحجرات6, ولله الحمد والمنة فقد اجتمع في جيل الصحابة من دوافع نشر السنة وتعليمها ومن أسباب التوثق والتورع ما جعلهم يقومون بأداء الأمانة خير أداء على الوجه الذي يكفل نقلها للأجيال من بعدهم.
ولقد جاءت أخبار عديدة وآثار فريدة في بيان توثق الصحابة ـ رضي الهه عنهم ـ في نقل السنة في حياته صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، من ذلك ما أخرجه البخاري في كتاب “العلم: باب التناوب في العلم” عن عمر رضي الله عنه قال: “كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد – وهي من عوالي المدينة- وكنا تناوب النزول على رسول الهل صلى الله عليه وسلم، ينزل يوما وأنزل يوما, فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك, فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته، فضرب بابي ضربا شديدا فقال أثم هو؟ ففزعت فخرجت إليه فقال: قد حدث أمر عظيم, قال: فدخلت علي حفصة فإذا هي تبكي فقلت: طلقكن رسول الله؟ قالت: لا أدري، ثم دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت وأنا قائم: أطلقت نسائك؟ قال: لا, فقلت: الله أكبر”.
أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فقد ازداد شعور الصحابة بضرورة التوثيق في نقل السنة إذ لم يعد بإمكانهم الرجوع إلى نبيهم صلى الله عليه وسلم للتثبت، كيف وقد واروه التراب بأيديهم.
من ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: “كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور فقال: استئذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استئذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله: “إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له، فليرجع” فقال: “والله لتقيمن عليه بينة”, أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم, فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك”.
بل لقد كان عمر رضي الله عنه كما يقول الإمام الذهبي هو الذي سنَّ للمحدثين التثبت في النقل, ولم يكن باقي الصحابة بأقل شعورا من عمر بعظم الأمانة وثقل الحمل، فقد قال التابعي الكبير عبد الرحمن بن أبي ليلى: “أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فما كان منهم أحد إلا ودَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفتي إلا ودّ أن أخاه كفاه الفتيا”.
كل هذا التشديد في رواية السنن كان قبل مقتل عثمان رضي الله عنه, هذا الحدث الذي شكل ثلمة في حصن الإسلام، وكان له من الآثار العظيمة ما يكاد يكون بها السبب الرئيس لما تلاه من نكبات في تاريخ الأمة, وكان من أكبر نتائجه افتراق الأمة وظهور الفرق عقدية تارة وسياسة أخرى، عند ذلك بدأت دواعي التقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم تظهر نصرة للمذهب الذي تحزب له الجهلة وأهل الأهواء.
وبظهور هذه الفتنة بالغ الصحابة بالتشدد في الرواية وقد كان في قوله ابن عباس رضي الله عنهما: “إنا كنا إذا سمعنا رجلا يقول: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف”، إعلانا بالمنهج الذي ساد آنذاك بين الصحابة بخصوص تلقي السنة.
هذا التثبيت في تلقي السنة شكل النواة لنشوء علم جديد من علوم الحديث، وهو علم الجرح والتعديل، كما شكل إعلانا عن بداية حقبة جديدة في الرواية تختلف عن سابقتها التي لم يكن يحدِّث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صحابي عدل مزكى يتحرى الصدق ويخشى الكذب, أما الحقبة التي تكلم عنها ابن عباس فيحدَِّث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يلقه، فلا بد أن يكون له في حديثه واسطة، ثم إنه هو نفسه ليس له شرف الصحبة ولا عدله الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
فكان لا بد من معرفة الواسطة المحذوفة لمعرفة مدى ثقتها، وذلك بعد التوثق من ثقة المرسل نفسه, كل هذا كان تطبيقا عمليا لعلم الجرح والتعديل وأول سؤال عن الإسناد وأول رفض للمراسيل، وقد أشار لنشوء هذين العلمين (علم الجرح والتعديل, وعلم الإسناد) واحد من أئمة التابعين وهو محمد بن سيرين، قال رحمه الله: “لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم”.
مما سبق إذن يتبين أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أول من بدأ بإنشاء ما عرف بعد بعلوم الحديث، وبانقراض عصرهم يتسلم التابعون مشعل الدفاع عن السنة وتمييزها من غيرها، يحدوهم في ذلك الرغبة في الأجر العظيم والتواب الجزيل، ويحركهم الشعور العميق بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقهم.