عندما نعتقد أو نؤمن استشرافا بحتمية الانتصار، ويقينية شهود مشهد أوبة بساط التمكين إلى أهل العز من غرس الإسلام وحصاد الإيمان، فإننا لا ننكر ولا نستطيع أن ننكر أن من يسعى اليوم في خرابها ويمشي في الأمصار بالبنادق والصلبان، يصول بالتنكيل والتدمير، ويجول بالغدر واللصوصية، قد نال من هامش هذا الاستشراف، واستنزف خيطا زمنيا من تاريخه المأمول وسيفه المسلول، وعطل آليات التمكين الذي استظل بظله الوارف أعلام السلف بينما ضيعه جيل مستنسخ من خلف جعل عرى الدين ظهريا، ورمى بأمانة حمل الموروث النفيس في غياهب الركن المنسي، واستعاض عن معالم الخيرية بأمان زائفة وحظوظ دنيوية متداعية، وأخذته العزة بالحشو والجعجعة حتى صار معول هدم في يد الغائر الغاصب، يخشى أن تكون للحق كائنة، أو أن ترفع له بوارق خفاقة يستظل بسلطان لوائها كل من في قلبه ذرة خير ونكتة رشد من أبناء هذه الأمة الخالدة.
ثم إن هذا الاستنزاف الزمني والتعطيل الحركي ما كان لحبله أن يمد مده، ولوسعه أن يبلغ أشده لولا استعانته بهذا الخلف الراعن، والسخائم الراغبة في مدنيته الزائفة الراكعة لمخططاته الماكرة، ووافداته الملغومة التي دشن من خلالها بالمباشرة والوكالة المفوضة، جبهات عاتية وخنادق مفخخة ظاهرها الرحمة وباطنها العداوة والنقمة فألفها الغافلون، وانغرست جذور زقومها في قلوب المتعالمين فسعوا إلى بسط نفوذها بالمرئي والمسموع، وبث مشروع ذيوعها بالإشارة والبشارة، وفي كل مخطط كان يتم التنصيص على الرمز أولا، ثم تتم إثارة الشبه حوله ثانيا، ليتم بعد ذلك التهارش على بقايا ضوء جذوته الخافت، وإهلاك بصيصه في قلوب المذبذبين من جيل الجسر ورعيل العبور.
وعلى كثرة هذه الرموز، مشروع القصف، وبعدها تنزيلها من نظرية اللب والقشرة، فإن الوطء كان يشتد ويخف ويتسع تأثيره ويضيق في أمور دون أخرى، وذلك مراعاة من المناوئين لما تقر به فرضيات الاستقراء بين بذر البداية وحصاد النهاية، حصاد يسقي غل العدو الغريب ويشرعن انبطاح ابن الجلدة القريب، فكان من جملة بذور البداية الملغومة استهداف معقل لغة الضاد واجتثاث مخارج حروفها مبنى ومعنى من ثنايا ذوي اللسان العربي المبين، حتى يحصل الحصاد المنشود الذي يتحقق معه الصد عن القرآن مع السماع واللغو فيه، مع الإنصات فلا يحتاج عدو اليوم إلى ما احتاج إليه عدو الأمس من الاستجداء المطلبي الذي مفاده تخبيرا قول الله عز وجل: “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ” فصلت:26.
فصار هذا الترجي للغلبة بين الأيدي الحافلة بالبغي والمكر لإسلامنا اليوم حقيقة لا زيف فيها حتى صار من آثار الهزيمة أن يستجدي همام وحارث “حربا ومرة” لترجمة القرآن بما هو مستهجن طبعا وقصدا ومزاجا وعمدا، فيحصل لأصدق الأسماء وأحبها إلى الله الفهم القاصر لنصوص الوحي، ذلك القصور الذي كان ولا يزال العلكة الخام لكل مصوغات التطويع والهلاك، والانقراض في صمت وانسراب حيث تتوارث الأجيال سابقا عن لاحق، هذه التركة الموبوءة والسم الزعاف، الذي خصص لذيوعه وانتشاره مدارس فاخرةـ ومتخصصون غلاظ شداد، ومشاريع مستقبلية حاضنة، ووظائف لامعة لكل من يجيد كتابة الحرف اللاتيني، ويحسن لوك عباراته الحضارية التي تستجيب لمتطلبات العصر المتطورة، بينما صارت اللغة العربية رمزا للبداوة، وعلامة على الغباوة، بل وصار إدراك المشروع النفيس، مشروع حفظ كتاب رب الأرباب مدعاة للسخرية ورهانا منحطا يستجدى بمكرمة إجازته زوار القبور، ويستعطف بقدسية حمله المشيعون في مناسبات التعزية والتأبين، فأي أب يا ترى والحال هكذا تسمح له عاطفته الجياشة للمغامرة بفلذات كبده في مشروع رجحان خسرانه بمعايير الحداثة الحاقدة، ومقومات المادية الساقطة واقع ما له من دافع.
فما أبين اليوم عن الأمس القريب، يوم كان الفرنسي يتكلف عمدا بحشر ألفاظ عربية قحة في جمل تعبيره حتى يحكم له بالتحضر والمعرفة، ولكنه مكر الماكرين، وكيد الكائدين، وحقد الحاقدين، ونحن إذ نتعصب تعبدا للغة القرآن ولسان سيد ولد عدنان، نعلم علم اليقين أن سائر اللغات هي آيات ربانية مبثوثة بين الخلق، مصداقا لقوله تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ” الروم:22.
ولكننا مع هذا العلم والمعرفة لا نرضى أن يضيق هامش اللسان العربي المبين، ويتسع بساط نفوذ اللغات الصقيعية، وتتجاذب المسلم حكما نعرات هوجاء، تروم خلق البديل المستفل، من خلال النفخ في رماد بعض اللهجات المحلية، فتستعير للاستقواء بالحرف الفينيقي والسلاح البونيقي حتى يرحل العربي الغازي بحرفه ودينه مع أن هذا العربي المسلم، قد رحل على مكث، وغاب على كينونة.
ولا أدلَّ على غيابه ورحيله، ما رواه لي أحد الأحباب، إخبارا منه عما وقع مع مديرة مدرسة خاصة، وهي امرأة أجنبية فضلت الاستثمار في مجال التعليم الخاص، ولعلّة منفصمة عن ملتها وانتمائها العقدي، تقرر هذه المديرة إدراج حصة تعليمية قرآنية بمعدل مرة في الأسبوع، ولا ضير ولا عجب، فالمغرب بلد إسلام، والأولاد من صلب مسلم، ولكن، وما أصعب الاستدراك!! يقرر أحب الأسماء عبد الله وعبد الرحمن -وأصدقهما همّام وحارث- الاحتجاج ضد هذا السلوك المحمود متعللين لجنابها أنهم جاؤوا بنسمة أصلابهم، وفضلوا دفع الكلفة النفيسة رجاء أن يتعلموا اللغات الحية ذات الذيوع العالمي والتي من شأنها أن تفتح لهم آفاق المنصب النجيع، وأبواب الكرسي الرفيع، وهذا بزعمهم لا يتحقق إلا بعيدا عن كل ما هو رجعي يخوض في قضايا العذاب الموعود، ونعيم السدر المخضود، والطلح المنضود، والظل الممدود..
فإلى الذين رحلوا على مكث، وغابوا على حضور، وجاعوا على بطنة، همسةٌ في آذانهم المبتكة، وللذكرى فقط لعلها تنفع بعد إيمان، وقبل حسرة التراق والفراق، فالكل راع، والكل مسؤول عن رعيته، فالأب في أهله وأولاده راع مسؤول عما استرعاه الله فيه، والأمر بالشيء أمر بلوازمه، وتعلم القرآن وتلاوته مطلب واجب يلزم منه عينا لا كفاية تعلم اسمه ورسمه، وتبليغ مبناه ومعناه لنسمة الأصلاب، جيل الطلاب مشروع التمكين.