لا تزال ساحة الأحداث بالمغرب تنتظر جديد قضية دور القرآن التي رُبطت بشكل غير منطقي بما عرف بقضية زواج الصغيرة.
أجل؛ اتخذت وزارة الداخلية قرارا بإغلاق عشرات دور القرآن متذرعة بتفسير معروف عند العلماء لآية من القرآن الكريم، حكاه الدكتور محمد المغراوي، فجعلت منه فتوى تهدد القاصرات، وأمرت بإغلاق جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة التي يترأسها الدكتور وغيرها من الجمعيات، مع أن رؤساءها أثبتوا استقلالهم وعدم تبعيتهم إداريا وقانونيا للجمعية التي يشرف عليها الدكتور.
ثم سرعان ما تبين للرأي العام أن الفتوى المزعومة كانت مجرد غطاء، وأن المستهدف هو دور القرآن الكريم ذات التوجه السلفي؛ ولذلك علل وزير الداخلية القرار -في البرلمان- بكون تلك الجمعيات مرتبطة بفكر المغراوي!
مما حذا ببعض المتابعين إلى التساؤل عن هذا “الفكر” الذي يتعامل معه وكأنه فكر انفصالي أو إرهابي، والتساؤل عن مدى قانونية مصادرة حرية مواطنين ملتزمين بمقتضيات وطنيتهم، حريصين على وحدة البلاد وأمنها واستقرارها، وهل يصح منطقا وقانونا أن تصادر أنشطتهم الدعوية لأنهم يخالفون غيرهم في بعض القناعات الدينية بعض المسائل الفقهية والمنهجية؟
وقد قال القضاء كلمته من خلال المحكمة الابتدائية التي ألغت قرار الإغلاق في جلسة بتاريخ: 11 رمضان 1430 الموافق:1/9/2009، بناء على القانون الذي يجعل مثل ذلك القرار من اختصاص القضاء وليس الإدارة، غير ملتفت إلى أقوال محامي الداخلية الذي حاول تسويغ القرار -وفق ما ذكر مدير الجمعية زكريا الساطع الذي حضر جلسات المحكمة- بكون الجمعية لا تلتزم بتقليد المذهب المالكي والمعتقد الأشعري، ولا بما جرى عليه عمل المغاربة من طقوس وعادات مثل: رفع الصوت في تشييع الجنائز وقراءة سورة يس في المقابر جماعة.. ، ولا تلتزم أيضا بالسلوك الصوفي، ولا تعترف بتعظيم الأولياء والصالحين الذين يُسدُون الإحسان للناس أحياء وأمواتا والذين بنى المغاربة على قبورهم القباب والأضرحة لتبقى ذكراهم عطرة -حسب قول دفاع الداخلية-!
وقد أكد الساطع بأن هذه الاعتبارات -على ما فيها من أخطاء وخلط ومخالفة صريحة للكتاب والسنة وما عليه الإمام مالك وأئمة المذهب المالكي رحمهم الله- لاغية في ميزان القانون، وأنها تعد خروجا عن موضوع الدعوى التي رفعتها الجمعية؛ وهو: أنه حسب قانون الحريات العامة المنظم لتأسيس الجمعيات لا يحق لوزارة الداخلية ولا لأية جهة غير القضاء إغلاق مقر الجمعية، وبناء عليه يتحتم إلغاء قرار الإغلاق.اهـ
إلا أن القاضي بمحكمة الاستئناف الإدارية حكم في جلسة: 25/11/2009 بنقض حكم الابتدائية، وهو ما اعتبره الساطع مفاجئا وغير منسجم مع مجريات الجلسات المتقدمة.
وقد علق الأستاذ “محمد الطاهر تُرْحَم” -أحد المحامين الموكلين من طرف الجمعية- على حكم الاستئناف بأنه غير قانوني وقال في تصريح لمراسل السبيل: “لقد صدمني الحكم المنطوق به، وشعرت بأنه حكم خطير؛ إذ يخول للولاية السطو على حق المواطنين في تأسيس الجمعيات وممارسة نشاطها المعلن، وهذا يتنافى مع القانون، الذي يلزم السلطات بالرجوع إلى المحكمة في مثل ذلك القرار، والإدلاء بتحقيق يؤكد تورطها في ما يستلزم إغلاق مقرها”، وأضاف قائلا: “إننا نأمل أن يتمتع المغرب بقضاء نزيه ومستقل، ويبدو أن تحقق هذا الهدف لا يزال بعيدا عن الواقع”.
وفي اتصال هاتفي بالأستاذ عبد القادر دراري الكاتب العام لجمعية الدعوة إلى القرآن والسنة، علق على الحكم قائلا: “إن الذهاب إلى الشوط الثالث في سلك القضاء كان لا بد منه على أية حال”، وهو ما جعله غير متفاجئ بالحكم بشكل كبير، وقال بنبرة يملأها التفاؤل: “نحن نفوض أمرنا إلى الله، وسنواصل المطالبة بإنصافنا متخذين الأسباب المشروعة، ومنها اللجوء إلى المجلس الأعلى للقضاء، موقنين بأن الله غالب على أمره”.
ومن خلال هذه المعطيات يتضح لنا أن قرار إغلاق دور القرآن قام على أساس غير قانوني يتمثل في المؤاخذة على “الفكر” ومصادرة حق التعبير عنه بالطرق المشروعة.
ولو كان هذا جائزا في القانون لكانت أولى به الجمعيات ذات التوجهات العلمانية والإلحادية والاستغرابية التي تعج بها الساحة الوطنية، والتي لم نسمع خبرا عن إغلاق مقراتها حفاظا على الأمن الروحي للمغاربة.
إن من المؤكد أن التضييق على السلفية مسلك يتأسس على أخطاء فادحة؛ منها:
1- التنكر لمنهج ديني متجذر في المغرب تاريخا وواقعا، ولم يزل حملته إلى الأمس القريب من العلماء المعتبرين والزعماء المصلحين ذوي الأيادي البيضاء في خدمة الدين والوطن؛ من أمثال مجدِّدَي السلفية في المغرب المعاصر: الشيخ بوشعيب الدكالي والشيخ محمد بن العربي العلوي وزيري العدل في عهد الملك محمد الخامس، -وقد عين الأخير بعد الاستقلال وزيرا عضوا في مجلس التاج وقاضيا شرعيا بالقصر الملكي-، وعنه أخذ الدكتور تقي الدين السلفية، وبسببه ترك التيجانية.
2- بتر الأصالة المغربية للسلفية والإيهام بأنها استيراد مشرقي (وهابي)، مع أن الواقع يؤكد أن المغرب عرف السلفية منذ عرف الإسلام، وأن الأصل في السلفية المعاصرة هو التجديد السلفي الذي قام به السلطان العالم سيدي محمد بن عبد الله في مطلع القرن الثالث عشر الهجري؛ والذي كان متزامنا مع الدعوة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبد الوهاب، التي لم تصل أنباؤها إلى المغرب إلا في أواخر عهد السلطان مولاي سليمان.
3- الإيهام بأن السلفية فكر متشدد، وأنه يشكل بيئة لنمو فكر الإرهاب؛ وقد علم كل مهتم أن السلفية تحارب الإرهاب فكريا وعلميا، ولا تلتقي أصولها الشرعية مع المبادئ الفكرية لدعاة التفجير والتخريب.
4- إن الحرب على السلفية في هذا التوقيت الذي تحارب فيه أمريكا وأوربا ما تسميه “الوهابية” والتي تجعلها رديفة للإرهاب، يطرح أكثر من تساؤل حول حقيقة خلفية قرارات إغلاق الجمعيات ذات التوجه السلفي، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار ما أوصت به مراكز الدراسات الاستراتيجية المقربة من البنتاغون والبيت الأبيض.
5- كان المفروض في القضاء أن يصحح هذا الخطأ، وأن يحافظ على استقلاليته ونزاهته، متجنبا أن يكون حاله مع من أخطأ من أجهزة الدولة كحال القائل:
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذامِ
إن سياسة فرض الرأي لا تتماشى مع القانون الكافل للحريات، وإذا كانت هذه المنهجية قد وجدت بيئة مناسبة في عهد الموحدين، فإن الجو لا يناسبها في زمن الدولة العلوية التي عرف ملوكها بنصرة السلفية، ولا يناسبها في زمن القنوات والشبكة العنكبوتية، وفي عهد مغرب الحريات.
إن الرأي يقابل بالرأي والبيان والحوار العلمي، الذي يُظهر المصيب والمخطئ، ولا يقابل بالقمع أو التضييق ومصادرة الحرية الشرعية، والبقاء إنما هو للأصلح كما قال الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}[الرعد/17]، وأما (البقاء للأقوى) فهو قانون الغاب الذي ينبغي أن يتنزه عنه المجتمع المسلم.
إن آلاف المستفيدين من أنشطة الجمعيات المصادر حقها في التنظيم والتأطير ينتظرون من القضاء أن يتحلى بالعدل والإنصاف والنزاهة والحكمة، وألا يتورط في معاداة دعوة إصلاحية متمسكة بثوابت البلاد المتفق عليها، ويتجنب تكريس سياسة الإقصاء وفرض التصور الأحادي الذي يسعى البعض لفرضه على الدولة والشعب باسم الخصوصية المغربية في زمن العولمة العاصفة والحفاظ على الثوابت في زمن أصبحت هذه الثوابت حبيسة المسجد، وصيانة الأمن الروحي في زمن يعيث فيه العلمانيون فسادا في أرض المغرب.