يدور حديثنا اليوم حول آية من آيات الله العجيبة، واحدة من كثير من الآيات التي نمر عليها ونحن عنها معرضون، لا نتأمل بديع الحكمة فيها ولا نرى فيها سوى الظواهر مع أنها مليئة بالأسرار الربانية، قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} يوسف. هاته الآية هي آية الزواج التي دلنا عليها ربنا سبحانه في قوله الحكيم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}الروم، فسبحان الذي ليس له صاحبة ولا ولد، ولا يحتاج في عظمته القدسية إلى أحد، الفرد الصمد، الذي ليس في الكون فرد سواه، ولا يملك الأحدية إلا هو سبحانه وبحمده كما يحب وحتى يرضى.
إنه لا شيء في هذا الكون يقوم بذاته دون الحاجة إلى زوج إلا الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} الذاريات، فالله الفرد وما سواه زوج، ومن هاهنا كانت حياتنا مفتقرة إلى مبدأ الزوجية الذي هو عكس الأحدية، ليبقى الفرد الأحد هو الخالق سبحانه وتعالى.
فالزواج ضرورة تكوينية لازمة للخَلق لا تنفك عنه، وما الحب والعواطف والمشاعر والدوافع الغريزية إلا انفعالات تؤزنا إلى هذه الضرورة، وتلجئنا إليها، كي يستمر النوع ويخلف بعضه بعضا إلى أن يأتي الأجل المحتوم، ويحكم الله على هذا الخلق بالفناء: قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ} الزمر، نسأل الله أن يرحمنا برحمته، ويكرمنا بجنته…
نصل الآن إلى الزوج، لنضعه في مكانه من هذه العجلة التكوينية، فنراه رقما في معادلة النسل، ونجد أن هذه الشجرة الأسرية التي كتبت منذ أن جرى قلم القدر في سطور اللوح المحفوظ، وحدد لكل رجل نسله بأسمائهم وأسماء أمهاتهم، ونراه حلقة وصل بين جيلين، إلى جانب المرأة التي تمثل الرقم الآخر في المعادلة، وتأخذ دورها التكويني كي تنطلق قصة الحياة من جديد مع كل ألم مخاض، ومع كل صرخة ولادة.
وفي خضم ذلك كله، ملكان عن اليمين وملكان عن الشمال، فينال المحسن جزاء إحسانه عطاء، وينال المسيء جزاء إساءته وفاقا، ويتدخل الشرع ليرسم لكل حدوده، ويضمن لكل حقوقه، فقسمة الأدوار بين الطرفين، اقتضت أن يقوم الزوج بحقوق مالية وقوامية، تتناسب مع الآليات والميكانيزمات التي أعطيت له كرجل، والتي تجعله صلبا كصلابة الحياة، قاسيا كهمومها، خشنا كتحدياتها، وتقوم المرأة بحقوق أسرية وتربوية، يساعدها عليها تكوينها الأنثوي اللين، بكل خصائصه الرقيقة والعاطفية، والذي يجعل منها أما تنتج الحنان والحليب، وتطعم الأسرة حبا وعطفا، لتكمل الجانب الروحي والذي يضفي على مادية الزوج معاني الحياة، فهي في الحقيقة روح البيت، والرجل بنيانه.
لا بأس إذن أن يكون الزوج بصلابته وحزمه رب الأسرة، ولا بأس في أن تطيعه الزوجة فيما لا معصية للخالق فيه، أما إذا أخذت الزوجة من صلابة الرجل، وأخذ الزوج من ليونة المرأة، فسرعان ما يتسرب الفساد إلى جمال الصورة وتكاملها، مع ما فيه من عصيان للرب، وخروج عن صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة!
فالزوج والزوجة طرفان لقضية واحدة، وعنصران متكافئان في معادلة الحياة، وليس بينهما فرق إلا في الحقوق والواجبات، نظرا لما استوجبته قسمة الأدوار بينهما، وما يستوجبه قانون التدافع الذي لا يقبل طرفين متساويين في القوة والاتجاه، لذا قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} البقرة، ولذلك جعلها الله ناقصة عقل من دون عيب، حتى يسهل مهمة قيادة الأسرة على الرجل، ويحمله مسؤولية الأسرة، ويسأله عنها يوم القيامة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} التحريم، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته) وفي هذا تخفيف عن المرأة لو علمت، ورحمة بها لو فقهت…
هذا التراتب الضروري، هو الذي جعل الرجل في مكان المسؤولية بتبعاته وتشريفاته، وثوابه وعقابه، فتقديمه على المرأة في شؤون الأسرة ضروري بضرورة تقدم أحد هذين الطرفين واستحالة أن تسير سفينة بقائدين، وهو الذي جعل له حقوقا في حياة الزوجة المسلمة، وجعل له منة عليها وفضلا…
من هنا كان الزوج امتحانا دينيا، وواجبا شرعيا تدرجه المرأة المسلمة ضمن واجباتها اليومية، فهو اختبار يشمل مجموعة من الاختبارات، إذ هو اختبار على الصبر وعلى التحمل وعلى شكر النعمة وهو أيضا اختبار على مدى التوكل والتعلق بالله عز وجل، وإن خفي عليك وجه كونه اختبارا توكلا، فسيظهر لك مصداق ذلك في ثنايا الحديث.
هنا نجد النساء بين طرفي نقيض، فمنهن من جعلت الزوج إلها يعبد، وربا يأمر فيطاع، ويسأل فيعطي، ويرجى فيثيب، ومنهن من جعلته حلقة في أذنها تتجمل به متى شاءت وتضعه في دولاب المتاع إلى وقت الحاجة.
أما النوع الأخير، فقد رسبت في الامتحان من جهة أمر الشرع لها بطاعة الزوج وتقديره واحترامه، وقد يكون هو السبب في رسوبها، والدافع لها إلى علوها وعتوها، بشخصيته البعيدة عن تعاليم الدين، أو بانحلاله الأخلاقي وميوعة رجولته وقلة غيرته، فلا تجد فيه المرأة الخُشونَةَ التي تريد أن تحتمي بظلها، ولا ترى فيه الأسد الذي يحمي أنوثتها، ويحفظ جمالها من عبث العابثين، مما يدفعها إلى الاستخفاف به وعدم الاكتراث له، فتمارس عليه نوعا مريرا من أنواع العذاب الدنيوي، وتذيقه من عجيب قدرة الله في تحويل النعم إلى نقم، نسأل الله أن يحفظنا وأهلينا من شر الذنوب وآثارها.
وأما النوع الأول، وهي التي طغت بالزوج فوق مقداره، وجعلته نصب عينها في كل صغيرة وكبيرة، وملاذها في كل ملمة ومصيبة، وأدارت عليه رجاءها وخوفها، وأطاعته في المعصية، وحفظت رضاه في سخط الله، فمصيبتها أطم، وخطأها أكبر وأشد، لأنها مست جناب التوحيد، وأحلت العبد مكان الرب في القلب، فبالغت في حب الزوج، وقصرت حياتها على هذا البشر الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فهي تخشاه كخشية الله أو أشد خشية، وترجوه كما لو أن بيده ملكوت كل شيء، حتى لا تكاد تدعو الله في حاجة إلا وفي قلبها أن زوجها سيقضيها، ولا تفكر في أمر إلا خطر هو على بالها، وهذا لعمري شر مستطير، وخطر كبير.
وهذا الأمر يظهر جليا في ارتباط المرأة ماديا بزوجها، حتى تنسى أنه إنما يتصرف كعبد مأمور، وأن ناصيته بيد ربه الذي يقلب قلبه كيف يشاء، وأنا أقول لكل زوجة، لو أردت شيئا من أبي عبد الله فاسألي ربه وربك، يأتيك بحاجتك من أبي عبد الله رغم أنف أبي عبد الله، فما أبو عبد الله إلا عبد، والعبد لا يعطي ولا يمنع إلا بإذن سيده ومولاه، وتخيلي معي رجلا دخل على ملك عظيم، فسأله شيئا من أمور الدنيا فأعطاه، وأمر الغلام أن ينطلق معه إلى بيت المال ليصرف له ما أمره به، وفي الطريق أخذ الرجل يتوسل إلى الغلام ويقبل رأسه ويديه، لكي يصرف له ما أمر الملك بصرفه، فهذا الرجل أحمق كأشد ما يكون الحمق، ولو علم الملك بفعله لغضب أشد الغضب، ولرأى في ذلك استخفافا بحقه، ولربما منع هذا الرجل من الدخول عليه، إذ لم يلتزم بالآداب المرعية في جناب الملوك، وهذا -ولله المثل الأعلى- حال كثير من النساء مع أزواجهن.
ويعظم هذا الأمر ويظهر أثره في حالة الفراق إما بموت أو طلاق، فتجد المرأة قد أسقط في يدها بل لربما بكت حتى أضر ذلك بصحتها، ولربما حلقت وصلقت ودعت على نفسها بالويل والثبور، ووقعت في جاهلية جهلاء، ولربما سمع منها أثر هذه العقيدة الفاسدة، ورددت كلمات كفرية، يرددها كثير من النساء في حال فقدان أزواجهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. يتبع