بعد تتابع المشائخ على إنكار قراءة القرآن على المقامات الموسيقية، خصص مدير قناة الفجر حصة للرد على المشائخ الذين انتقدوا قناته، وحاول أن يرد عليهم في 13 محورا، قدم لها بمقدمة، فظهر لي ضعف ما استدل به، ورأيت أن أقدم له نصيحة بما له علي من حق الأخوة، وقد تقدمت الحلقة الأولى من هذه النصيحة، وهذا تمامها، أسأل الله تعالى أن ينفع بها:
• المحور السادس: قولك:كل قارئ يقرأ بمقام
أقول: ليتك -يا أخي- سمعت كلام المخالفين لك، فإنهم يفرقون بين التغني السليقي، وبين تقصد وتكلف موافقة الأوزان الموسيقية.
فقد سئل الإمام أحمد عن قراءة القرآن بالألحان فقال: “هو بدعة ومحدث”، قيل: تكرهه يا أبا عبد الله؟ قال: نعم، أكرهه، إلا ما كان من طبع، كما كان أبو موسى، فأما من يتعلمه بالألحان فمكروه” (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال: 207).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: “التطريب والتغني على وجهين:
– أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم بل إذا خلي وطبعه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين فذلك جائز…
– الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع وليس في الطبع السماحة به بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها وأنكروا على من قرأ بها”. (زاد المعاد 1/463).
فنحن نوافقك على أن آيات الرحمة لا تُقرأ بنفس الصوت الذي تقرأ بها آيات العذاب، وهذا شيء لا يحتاج إلى تعلم المقامات الموسيقية، وإنما يحتاج إلى أن يتدبر القارئ القرآن، وأن يعيش مع معانيه، فآيات الرحمة تُحدث عند القارئ المتدبر رجاء وسرورا يظهران على صوته وقراءته، وآيات العذاب تُحدث عنده حزنا ورهبة يؤثران على صوته وقراءته، وذلك كله من غير أن يتكلف تعلم هذه المقامات الموسيقية.
ومما يدل على ذلك أنك ضربت مثلا -في أحد المحاور- باختلاف نبرة صوتك بين صديق تتصل به لتعزيه، وآخر تتصل به لتبارك له، فهل يحتاج ذلك عندك إلى تعلم المقامات الموسيقية وتكلف موافقتها عند التعزية أو التبريك، أم إِنَّ ذلك يَحدث عندك تلقائيا لاختلاف شعورك في الحالين؟!
• المحور السابع: قولك: إن المقامات صوتية وليست موسيقية
فنقول: هي صوتية إذا صدرت من غير تكلف وتقصد لموافقة أوزان الموسيقى، وهي موسيقية إذا قصد صاحبُها موافقةَ الأوزان الموسيقية.
وما المانع من نسبة المقامات إلى الموسيقى وقد خرجت من رحمها، وإليها يرجع نسبُها، وإنما وُضِعَت -أولَ ما وضعت- لأجلها؟!
وهل مِنْ مانع مِنْ أن تُنسب البنتُ إلى أمها؟! فإن قيل: قد وُلدت من سفاح، فهي بنتٌ غيرُ شرعية، قلنا: الولدُ للفراش وللعاهرِ الحجر.
هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى: فأصحاب الموسيقى الذين وضعوا هذه المقامات ينسبونها إلى الموسيقى، قبل أن أولد أنا والغزاوي.
ونحن نعلم أنك تجتهد -يا أخي- في قطع العلائق بين الموسيقى وبين المقامات لِيَتِمَّ لك ما تريد، فلذلك نقول لك: إذا كنت ترانا مخطئين فَبَيِّنْ لنا نَسَبَ هذا العلم وأصله، واذكر لنا واضعَه ومُبْتَكِره، ولا تَحِدْ بنا إلى الأصوات، فنحن نعلم أن الأصوات وُجدت قبل أن يوضع علم المقامات، وقبل أن تُقَعَّد قواعد علم التجويد.
فإنما مَثَلُكَ كَمَثَلٍ رجل لا يعلم حقيقة التجويد وأصله، أراد أن يستعمل هذا العلم الشريف في الغناء والموسيقى المحرمة، فلما أنكر عليه الناس، قال: سأضع لكم تعريفا للتجويد، فعرَّفه كما عَرَّفْتَ المقامات، ورَدَّهُ إلى الصوت وأبى أن يربطه بالقرآن، لِيُسَوِّغَ استعماله في الغناء والموسيقى.
• المحور الثامن: وصفك لمن انتقدك بالإرهاب الفكري
قلت: إنما هي -يا أخي- الغيرة على حدود الله، تحمل أهل العلم على استعمال شيءٍ من الشدة، التي قد تُحْدِث رهبةً في قلوب المُتَعَدِّين لحدود الله، وهذا مطلوب شرعا؛ لأنه يزجرهم ويمنعهم من حدود الله أن يَقْرَبوها، وليس كل إرهاب مذموما، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال60)، فإرهاب الظالمين والمعتدين إرهاب مشروع.
والإرهاب المذموم هو ما استعملته أنت، حين قُلْت في آخر المحور الرابع بالعامية: “لِّي ما يتفق معنا على هذا المحور أنا أنصحه: افتح على قناة ثانية، وشوف ليك أَيِّ موضوع ثاني، لا تضيع وقتك”.
هل هذا أسلوب يخاطب به المشاهد يا أخي!
ثم ما الذي دفع أهل العلم -في ظنك- إلى الإنكار عليك هذا الإنكار الشديد؟ هل بينك وبينهم خصومة شخصية؟ أم لهم عليك حقوق مالية؟ أم هي الغيرة على كتاب الله يا غزاوي؟!
• المحور التاسع: قولك: ليست الفجر أول من طرق الباب:
نعم ليست الفجر أول من ابتدع هذه البدعة، ولكنها هي التي روجتها وأشاعتها في العالم مما حرك غيرة العلماء، فقاموا جميعا لصدها فهل في ذلك ما يُعاب؟!
• المحور العاشر: قولك: أصحاب المدارس كلهم قرؤوا بالمقامات
تقدم أنه لا مانع من التغني السليقي الذي ليس فيه تكلف حتى وإن قيل: إنه قد وافق مقاما، وقد شهد الشيخ المعصراوي أن أصحاب هذه المدارس مثل الحصري، والمنشاوي، وعبد الباسط لم يدرسوا هذه المقامات، ولا عرفوا هذه المسميات.
• المحور الحادي عشر: الأدلة من القرآن والسنة
الأدلة التي ذكرتَها تدل على استحباب تحسين الصوت بالقرآن، ونحن لا نمنع من هذا، وليس هذا هو محل النزاع، وإنما النزاع في حكم قراءة القرآن بألحان الغناء والموسيقى.
وقد اكتفيتَ -من كلام العلماء- بنقل كلام لابن حجر، مُعرضا عما نقله قبل كلامه من كلام المنكرين لقراءة القرآن بالألحان، ومُحْتَجًّا بقوله رحمه الله: “ومن جملة تحسينه أن يراعى فيه قوانين النغم فإن الحسن الصوت يزداد حسنا بذلك…” (الفتح 9/82)، فأقول:
*أولا: ابن حجر لم يقل: “قوانين النغم الموسيقي”، فلعله يقصد مطلق التنغم والتحسين للصوت، وهذا لا ننازع فيه، وإنما ننازع في قراءة القرآن العظيم بألحان الغناء والموسيقى، فإن كان ابن حجر رحمه الله يقصد بكلامه الأنغام الموسيقية فكل يؤخذ من قوله ويرد، والذين خالفوه أعلم وأكثر، وفي كلامهم مَقنع لمن أنصف، وقد سبق نقل كلام بعضهم في مقال سابق، ومنهم: الإمام مالك، والإمام أحمد، وابن أبي زيد القيرواني في الرسالة، والقرطبي في التفسير، وابن تيمية في الاستقامة، وابن القيم في زاد المعاد، وابن كثير فضائل القرآن، وابن رجب في نزهة الأسماع وغيرهم رحمهم الله جميعا.
* ثانيا: في موطن آخر قال ابن حجر (الفتح 9/92): “قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: معنى (الترجيع) تحسين التلاوة لا ترجيع الغناء؛ لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة”، نقل ابن حجر هذا الكلام مستدلا به، ومُقرا له، وهو كلام صريح، مقيد بالغناء بخلاف الكلام الأول.
المحور الثاني عشر: قولك: إن قناة الفجر انضبطت بقواعد التجويد
قلت: لم ينكر أحد على الفجر الانضباط بقواعد التجويد، فهذا مما تشكر عليه، وإنما أنكر عليها اعتماد المقامات الموسيقية في كلام رب البرية.
المحور الثالث عشر: الوسائل لها أحكام المقاصد
هذا مما لا خلاف فيه، ولكن يشترط في الوسائل أن تكون مباحة، فالمقاصد المشروعة لا تبيح الوسائل الممنوعة، ولولا ذلك لوافقنا القاعدة اليهودية التي تقول: الغاية تبرر الوسيلة.
فإذا كانت المقامات الموسيقية ممنوعة في القرآن الكريم، فلا محل لهذه القاعدة هنا.
وللتوضيح بالمثال أقول: ربما يأتي يوم -وهذا زمان العجائب- يظهر فيه من يريد أن يقرأ القرآن بالمعازف، وربما يستدل هو أيضا بهذه القاعدة. ويقول: إن مقصودي هو تحبيب القرآن إلى قلوب الناس، فالناس ابتلوا بالغناء والموسيقى، ولا سبيل إلى إسماعهم كلام الله تعالى إلا بهذه الطريقة؟! فماذا ستقول له يا غزاوي إذا قال لك: الوسائل لها أحكام المقاصد.
وأخيرا، أقول لك يا أخي الكريم: اتق الله تعالى، واعلم أن ترك الشبهات من صفات المتقين، فإنه “لا يخفى على الناظر، أن محل النزاع إذا خرج عن دائرة الحرام، لم يخرج عن دائرة الاشتباه، والمؤمنون وَقَّافون عند الشبهات” (مقتبس من كلام الشوكاني في نيل الأوطار)، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ».
قال الشيخ العثيمين في قوله صلى الله عليه وسلم (استبرأ لدينه وعرضه): “استبرأ لدينه فيما بينه وبين الله، واستبرأ لعرضه فيما بينه وبين الناس”. (شرح الأربعين النووية)، ومفهوم هذا أن من لم يترك الشبهات لم يسلم دينه فيما بينه وبين الله، ولم يسلم عرضُه فيما بينه وبين الناس.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا لما يحب ويرضى، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.