ليس الإسلام في هذا العصر أسطورة ورثناها عن الحياة البدائية والعصور الهمجية الغابرة، وفي وسعنا الاستغناء عنها كما استغنينا عن مثيلاتها من الأساطير القديمة، هذا مستحيل، فقد كان -وما يزال- هذا الدين أداة مهمة من أدوات التنوير والمعرفة، وضربا من ضروب التربية لا غنى عنه، فالمسلم المتدين مثلا لا تقتصر وظيفته على ترهيب الناس من عذاب القبر وجهنم وأهوال يوم القيامة والصراط وشدة الحساب، وتصوير مصير الكفار بصورة تقشعر منها القلوب، وإنما تشمل فوق ذلك تطهير الأفئدة وتزكية النفوس من الأمراض والأدران، بل لا نبالغ إذا قلنا بأن المسلم الحقيقي الملتزم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم سلف الأمة، عالم يبز في مهمته مختلف الكوادر الثقافية والسياسية الزائفة.
فالإنسان لن يستغني عن الدين الحق أبدا، رغم المحاولات العبثية لاستئصاله واغتياله، والإسلام الصحيح ضرورة إنسانية، بدونه يصبح المرء وحشا في غابة، يضرب بالقيم والأخلاق والمبادئ عرض الحائط، والأخطار المفترضة من الدين أخطار وهمية، نسجت من إبداع وفبركة خيال أناس مرضى بجنون الإلحاد والعلمانية، فالذين يواظبون على قراءة القرآن، ويحرصون على التمسك بسنة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم، وتعلقت قلوبهم ببيوت الرحمان، لا يصبحون إرهابيين رجعيين، ولا يتصفون بالتشنج والتعصب والتطرف، كما اعتادت أن تصورهم الأفلام العلمانية الماجنة والكتابات الصحافية الثقافية المأجورة.
إننا نكره أن نرضخ للإرهاب الثقافي، ولا يتحتم أن يفرضوا على الناس أحكامهم وأساطيرهم، ولا يجب أن يكونوا أصناما فوق الشريعة، ولا ينبغي أن يفرضوا علينا التفكير الذي يتلاءم مع ما يدعون إليه، لأننا أناس لنا الحق في أن نعيش وفق ما نحلم به، وإذا لمسوا في أفكارنا وآمالنا حقائق تخالف ما يدور بأذهانهم، فنرجوا منهم أن يحترموا حقنا في الاختلاف، وأن لا يتدخلوا في حق تقرير مصيرنا وفق ما نشاء، وأن لا يحشروا أنوفهم في أمورنا وشؤوننا، وإذا لم تعجبهم طريقة معاشنا وأسلوب حياتنا، وكيفية تفكيرنا، فنلتمس منهم أن يرحلوا عن بلادنا، ويتركوننا أحرارا نحتكم إلى قرآن ربنا وسنة نبينا ومنهج سلفنا، ولهم منا جزيل الشكر والامتنان إن هم قبلوا باقتراحنا.
إن الثقافة ينبغي أن لا تقوم على أساس الإكراه والضغط، وليس لها أن تخيف إنسانا وتمنع رأيا وتشيع قمعا وتمارس تسلطا، أليس الحوار أبلغ وسيلة للإقناع؟ ولا نريدهم ذراعا للقوى الخفية الظالمة التي تتحكم في رقاب مجتمعاتنا، ليبطشوا بنا عن طريقهم، ولا نريدهم أداة للطغيان الفكري والاضطهاد النفسي.
لقد سال مداد كثير من أولئك المثقفين بحثا عن علاج أمراض وأدواء الأمة الإسلامية، كل يحاول أن يدلي بدلوه في هذا الباب، محاولا أن يخرج بحل ناجع، ينهي أزمة الاستبداد السياسي، ويحقق للأمة مستويات في التنمية والتقدم، وينقلها من حالة الانحطاط والتخلف، غير أن معظم اقتراحات النخبة المثقفة حصرت اهتمامها في جوانب أحادية ضيقة، وهذا ما جعل أحكامها وآراءها نسبية قابلة للمراجعة والمناقشة والأخذ والرد.
لن نحاول بدورنا الانسياق مع الأوهام والأساطير المؤسسة للتيارات العلمانية، بل سنتناول الموضوع “علاج أمراض العالم الإسلامي” من زاوية غريبة ومخالفة لما درج عليه الفكر السياسي الغربي، ونرجو من الله أن لاننغمس بدورنا في متاهات خيالية بعيدة عما يعتمل على أرض الواقع المعيش.
إننا نحتاج في العالم الإسلامي إلى صحوة علمية حقيقية تقوم على إحياء الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة، صحوة تعيد النظر في مجموعة من المسلمات والمعتقدات التي استقرت داخل الفكر السياسي الغربي، وفلاح هذه الصحوة ونجاحها يرتبط بخلخلة الأفكار وتحرير العقول من تقديس جملة من المبادئ والنظريات التي ثبت فشلها وعقمها وعدم جدواها وتجاوز منطق التسليم بالأمر الواقع، والجمود على قاعدة “إنا ألفينا عليها آباءنا ونحن لها عاكفون”.
وهذا يعني أن الأجيال الجديدة يتحتم عليها أن تحرر فكرها من ثقل أخطاء الغرب الملحد، كما يتوجب عليها أن تتخلص من سلطة المغالطات التي تمارسها بعض الرموز الثقافية التي وصلت إلى مرحلة الشيخوخة الفكرية، ونعني بذلك أنها هرمت ولم تعد تمتلك عقلية الشباب التي تتسم بالحيوية والقدرة على التجديد والابتكار، هذا إن لم نقل إنها فقدت قدرتها على الاستماع والاستفادة من طروحات الآخرين، وتقبل وجهات نظرهم، يا ليت هذا الدكتور المثقف العلماني الهرم اعترف بعجزه وضموره الفكري، وأخلا الساحة لمن لهم الأهلية والكفاءة العقلية، لنقد الفكر السياسي الغربي وفضح خرافته وادعاءاته، ولكنه أبى أن يرفع راية الاستسلام رغم مرضه وعجزه وفشله في إنتاج أفكار جديدة، علما أن أكثر أطباء القلوب أعلنوا في إجماع تام أن هذا العجوز قد بلغ من الكبر عتيا ولم تعد تنفع معه أي عملية علاجية، وأنه أوشك أن يلفظ الأنفاس الأخيرة.
أقول رغم حالته الصحية تلك التي تدعوا للرثاء والشفقة، فإنه ما فتئ يصر على اعتقال كل الأفكار والخواطر التي لا تتناسب مع أهدافه ومخططاته، وحتى يتحقق له ذلك فإنه يناضل لكسب جماهير من الناس تتعاطف مع مشاريعه وأحلامه، لأجل ذلك يسعي إلى جلب أكبر عدد من الأتباع والمناصرين عبر استقطابهم لصالح المشروع العلماني الحداثي، وأخطر أسلوب يتسرب منه الخطاب العلماني إلى قلوب عامة الناس هو الإشاعة، بهذه الوسيلة يكافح العلمانيون باستمرار ودون كلل أو ملل، وعبر تكرار متعمد، أن يلصقوا قصرا تهمة الإرهاب والتطرف بكل من يتعاطف مع منهج الإسلام الصحيح، فيكفي أن تلفق للخصم هذه التهمة الجاهزة لعزله عن مجتمعه وتعطيل دعوته، وشل تحركاته وتشويه سمعته غير أننا نؤكد منذ البداية، وإن كنا ندعوا لمراجعة الفكر الغربي السياسي ونقده وتجاوزه، فإن كلا منا لا يعني التنكر والجحود لما أتقن وأجاد فيه الغرب من اختراعات وابتكارات ونظريات، ما دامت لا تتعارض مع ثوابت القرآن والسنة وفهم سلف الأمة، بل إننا ندعوا إلى الاعتراف بتضحياته وجهوده في خدمة البشرية، لكن هذا ليس عذرا لإظهار المودة والمحبة له، وليس هذا مسوغا لتعطيل العقل، وقتل روح المبادرة والإبداع، وانتظار الحلول الغربية الجاهزة المستوردة، وتجميد ملكة النقد، وعدم الطموح إلى مستقبل أفضل.
إن تحقيق صحوة علمية هادئة عملية ممكنة، لكن بشرط تحرير أفكارنا من الأحكام المسبقة التي تقف عائقا أمام إمكانية التجديد خارج النظريات الجامدة، والتخلص من لعبة التخويف والترهيب التي تغدي في نهاية المطاف انحطاط الأمة واستمرار هزيمتها، وإبقاء الوضع على حاله.
تلك بعض الانتقادات التي تؤخذ على الاتجاهات الثقافية العلمانية، أما الحركات الإسلامية فإننا سنخصص لها بعض الاقتراحات والتوجيهات ترشيدا لصحوتها، وتقويما لاعوجاجها.
ومن جملة هذه الملاحظات التي يجب على مختلف اتجاهات الحركات الإسلامية أخذها بعين الاعتبار أن تعيد النظر في مناهجها الدعوية وأساليبها التربوية في زمن لم تعد تجري فيه الأمور كما كانت في العقود الماضية، وصار العدو الصليبي يتحكم في تغيير المناهج التعليمية حسب فلسفته وأهوائه، يفرض على الدعاة والخطباء أن يؤلفوا خطبا ومحاضرات تتغنى بديموقراطيته وحريته، يجبر أهل العلم على إصدار فتاوى تتناسب مع استراتيجيته، ولا تتعارض مع مخططاته، ولأجل تفعيل هذه الأهداف جيش كل جيوشه العسكرية والإعلامية والاقتصادية والثقافية والتعليمية بغرض تجفيف المنابع المادية والمعنوية للإسلام والمسلمين.
في ضل هذه المتغيرات، أصبح من الحَتمي على الحركات الإسلامية أن تتبنى صحوة علمية حقيقية تحتكم إلى الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة قبل أن تطالب الخصم بذلك، وأن تخضع نظرياتها ووسائلها للنقد والمراجعة والمساءلة، وقبول الحق مهما كان مصدره بدون تعصب أو إلغاء، ولكي تنتقل الحركات الإسلامية من مرحلة المراهقة الفكرية إلى مرحلة الصحوة العلمية لا بد من توافر مجموعة من الشروط والضوابط من بينها:
1- ترتيب الأولويات في سلم الدعوة إلى الله، فأول ما ينبغي الاعتناء به قضية التوحيد: فحاجة الناس إلى بيان المعتقد أكثر من حاجتهم إلى أي شيء آخر، وفي عصر نطق فيه الرويبضة، وتكلم المثقفون السفهاء في أمور عامة الناس، وتطاول أهل الإلحاد على مقدسات الأمة وثوابتها، أضحى من اللازم على مختلف أطياف الحركات الإسلامية أن تتسلح بسلاح العقيدة، حتى يتسنى لها أن تقف في وجه كل دجال منحرف ضال في عقيدته، ومما يؤسف له أن واقع الجماعات الدعوية على النقيض من ذلك حيث لا نجد عقيدة التوحيد في المرتبة الأولى من سلم اهتماماتها ونشاطها ومحاضراتها.
2- التزام الإخلاص والصدق في كل شأن من شؤونها، وتربية عموم الناس على تصحيح النية، وقصد الله وحده، باعتبار أن ذلك رأس كل عمل تعبدي.
3- عدم الدخول في مواجهات عقيمة مع الحكام، فطاعتهم واجبة ما دامت في المعروف، وشق عصا الطاعة عليهم، والخروج عليهم عبر المظاهرات والإضرابات والاعتصامات وبث الخطب الحماسية التهييجية، وسفك الدماء البريئة والانقلابات العسكرية، والانفجارات والاغتيالات السياسية وسب أولي الأمر والتشهير بهم ووصفهم بأوصاف قدحية.. كل ذلك ليس من منهج الإسلام في شيء، وإنما هو منهج التيارات اليسارية العلمانية الثورية الانقلابية البائدة التي لا شغل لها إلا الوصول إلى كراسي الحكم فقط ولا يهمها الطريقة إن كانت شرعية أم لا، ما دامت تدين بشعار مبدؤه أن الغاية تبرر الوسيلة، والواقع أكبر برهان على فشل وعقم تلك الأساليب التقليدية، فإذا استقرأنا التاريخ القديم والمعاصر فإننا نكتشف أن أولئك الذين تمردوا على الحكام، ودخلوا معهم في صراعات مسلحة لم يجنوا منها أية ثمار إيجابية، فانتشرت الفوضى وأريقت الدماء، وضاعت الأموال، وخربت المنشآت العمرانية، وزج بالشباب في السجون والمعتقلات، والحصيلة النهائية هي تعطيل الدعوة وشل حركاتها، فكانت تلك الأعمال الغوغائية الفوضوية سببا في المزيد من تسلط الغرب وأذنابه على بلاد المسلمين، وتكميم أفواه العلماء والدعاة وتوقيف بعضهم، وملاحقة المؤسسات الخيرية والمدارس القرآنية التي كانت تكفل اليتامى والمحاويج وطلاب العلم..
4- عدم التعامل مع الواقع باستعجال وحرق للمراحل، وأن تكون طويلة النفس، وتنظر إلى المدى البعيد وكل من حاول أن يستفزها ويضايقها، ويمارس عليها الحصار والقمع، فلا ينبغي أن تعامله بالمثل وإنما تجابهه بالصبر والحلم والتغاضي، وتأخذ بعين الاعتبار أن الدعوة طريقها مملوء بالعقبات والأشواك وليس مفروشا بالورود والرياحين.
5- الاستضاءة بنور السيرة النبوية في مناهجها وطرق عملها، فهي بمثابة البوصلة التي تحفظ السفينة من التيه والانحراف عن جادة الصواب، ولا شك أن أي ربان يفتقد لهذه البوصلة يعرض نفسه وأصحابه لفقدان الاتجاه الصحيح، مما يجعلهم عرضة للموت والهلاك، فكذلك عندما جهل رواد الحركات الإسلامية سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أصبحوا يخبطون خبط عشواء، ويفسدون أكثر مما يصلحون، فنتج عن ذلك أنهم حُرموا نعمة فهم الأهداف والوسائل التي اعتمدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته للناس، فخرج علينا من يتبنى الأساليب الديموقراطية، ويدعو لنظرية الخلط بين الأديان، ويصر على التقارب مع الروافض والتيارت العلمانية الملحدة.. وغيرها من الطوام العقدية التي تعكس جهلهم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
ختاما، لقد قيل وكتب الكثير عن احتياجات الأمة، وتشخيص أمراضها ووصف علاجها، وقد وضعت مختلف المشاريع الإصلاحية تحت محك التجارب العملية، إلا أنها بقيت حبرا على ورق، ولم تحقق ما كان متوقعا منها، لأنها افتقدت إلى الأرضية الصلبة التي إذا صلحت صلح ما فوقها من أعمدة وأركان.
نعني بذلك أن الأمة في الوقت الحاضر في طريقها إلى المجد والسؤدد والريادة بين الأمم، هي أحوج إلى صحوة علمية عقدية حقيقية، تنبني على إحياء الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة، وتحت قيادة علماء ربانيين.
نسأل الله عز وجل أن يلهم هذه الصحوة المباركة رشدها، وأن يقيها شرور النفس الأمارة بالسوء، وأن يكفيها أعداءها، وأن يسدد خطاها إلى طلب العلم النافع والعمل الفالح، واقتفاء أثر السلف الصالح.
” وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ” يوسف.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.