إن علينا ونحن نتجرع ظلم الأمم، أن نحس بهذا الظلم بوصفنا مسلمين، حتى لا نستغرب بعد هذا الإحساس تكالب القوم وتداعي أهل الصلبان على الطين والدين، فالإسلام كان ولا يزال وطر قصف وأهله غاية إبادة.
كما علينا ونحن نفكر في طريق الخلاص، ونلتمس ترياق الحياة وطوق النجاة، ألا نلتفت إلى لوم اللائمين ودعوى الأفاكين، إذا ما تشبثنا بعرى ديننا، وأصررنا بصبر وجلد على البقاء على محجته البيضاء، فإن التفاتنا إلى هذه القواطع من شأنه أن يعطل فينا آلة الفكر التي توجهنا إلى استلهام الحماس والمصابرة والمرابطة، وتدفعنا دفعا شديدا صوب ديننا نستمد منه روح الكفاح، ونستدفئ بموقد عقيدته في العراء، ونأنس بسراج هديه المنير في محيط طال وقوب غسقه، واستأسدت فيه همجية الغاب تحت مسميات وألقاب ظاهرها الرحمة وفي جوفها صنوف من العذاب وألوان من العقاب.
ثم إن علينا أن لا ننسى أو نتناسى أن المطلوب منا ليس تقديم خراج أثقال الأرض إلى الغزاة، ولا تقديم قرابين ما تنبته أرضنا المعطاءة من فيء وثمر، فهذا مطلوب لا نشك في إدراجه ضمن فاتورة مطالب الرجل الأبيض، لكنه لا يملأ عنده هامش الهم الأول من هذه المطالب.
فالمطلوب إذا ولابد، هو أن يحصل ذلك اليوم الذي نتخلى فيه كمسلمين عن صلتنا بالله، تلك الصلة التي لا عوج فيها ولا إقعاد، وأن نساق على مضض لنعلن براءتنا من الإسلام، ونشهر خصومة لجوجة مع هذا الدين، معتقدين أنه معرة، وأننا لن ننال حظوة ولن نستحق إنصافا من هذا الآخر، ما دامت شعائره معلنة بين ظهرانينا، نصدر لأدائها أفواجا أفوجا متى ما نادى داعي الحق: حي على الصلاة، حي على الزكاة، حي على الصيام، حي على الحج، حي على الجهاد.
فالمراد إذن من حملات استهدافنا وإرادة تقسيمنا إلى قرى صغيرة تحت طوائل الشعوب الأصيلة، والنفخ في رماد النعرات القبلية التي أخمد نارها الإسلام الإمبراطوري، وهدت قواعد كانونها دولة الخلافة الإسلامية، فالمراد إذن هو اجتياحنا بوصفنا مسلمين حصرا وقصرا، واستئصال شأفتنا لنكون أثرا بعد عين، وليصير حالنا بعد ردهة من الزمن إلى تلك البغية التشكيلية التي يؤثث صفحتها خراب البيوت الخاوية، والبئر المعطلة، والقصر المشيد، واليد السفلى التي تستجدي عند موائد الغاصب ما يرد الرمق، ويدفع الجوع، ويدرأ العذاب، وكم هي أمنية غالية عند من يتربصون بنا الدوائر؟ ولكنها ولله الحمد في مفاهيمنا العقدية من جنس السراب الذي يحسبه المتوهم ماءا وما هو بماء.
فلسنا وبغير بطر ولا غمط هنودا حمرا، ولا عباد نار أو حجر أو شجر، إننا أمة خيّرة بث فيها الله مادة الخلود، وجمع لها مقومات إرث الأرض ولو بعد حين، وأصبغ عليها نعمة القيادة، وأناط بها مسؤولية إخراج الناس من ظلمات الكفر وسبل الردى إلى نور الحق وسبيل النجاة، فلا ضير ولا خوف إن غط المسلمون في بيات وسبات على يقظة صورية فبات سعيهم الإخلاد إلى الأرض، وتشربت قلوبهم الوهن، وتسلقت جوارحهم مدارج الزيف المدني، وتشدقت أفمامهم بالشعارات المستغربة التي ليس بيننا وبينها كمسلمين صلة فرع ولا قرابة ضرع.
ولعل من المصائب، مصيبة أن يكون للوطن أعداء، لكن أن تختفي عداوتهم وراء أكمة جهلنا بهم، وجهلنا بما كانوا يمكرون، فتلك مصيبة أعظم، والأفظع منها والأشنع، أن نرفع شكاوينا إلى محاكم الجلاد، راغبين طالبين من هذا الغاصب المتربص أن لا يجرمنه شنآنه، فيحكم لنا بالعدل والسوية، وأن ينصفنا كمغاربة مسلمين بإعادة ما اقتطعته الإيالة الفرنسية يوم كانت تحكم بلاد الجزائر، وتعتبرها جزءا من جغرافية وتاريخ الجمهورية الخامسة التي وقع معها المغرب كدولة ذات سيادة بعد معركة إيسلي معاهدة (لالة مغنية)، التي كان من بنودها أن تركت الحدود الشرقية من المملكة المغربية مع الإيالة الجزائرية الفرنسية مبهمة، حتى تسنى لخطاطيف الظلام التسلل إلى حصوننا، وعبور حدودنا لواذا وعلى غفلة.
فربما غرنا اليوم أن عربدة دباباتهم قد انسحبت من ثغورنا، وأن بنادقهم قد تحولت عن نحورنا، فظننا خطئا أن استعمارهم قد ولى بغير رجعة، مع أن الذي ولى وأدبر إدبارا معلقا هو ما يصطلح عليه الاستعمار السافر، أما كونهم لا يزالون متربصين بنا يلغمون أرضنا ويختلقون المشاكل تلوا الأخرى، ليزعزعوا استقرار جبهتنا الداخلية، وليتدخلوا في دقائق أمورنا وكبرى شؤوننا، فهذا لم ينقطع بريده ولم تنخمد ناره، فها هي إسبانيا تحشر أنفها في قضايانا عنوة، وتساند الفكر الانفصالي سرا وعلانية، فتحلل لغيرها ما تحرمه على أرضها، وتمنع منه مواطني إقليم الباسك.
إن علينا أن لا نستغرب هذا السلوك المشين، ففي استغرابنا دلالة على أننا لا نزال نجهل جهلا مركبا، كيف يفكر الغرب الصليبي في قضايا جغرافية أهل التوحيد؟ إننا والحال هكذا لا يعني استغرابنا إلا أننا لا نزال مخدوعين من ذلك السراب الذي حذرنا منه قرآننا العظيم، ذلك السراب الذي لا يزال توهمه يخلق في بعضنا الأماني الكاذبة، التي تحول دون الوقوف على الوجه الكالح للغرب الصليبي، والخبيئة السيئة التي تنتظرنا كصغار أيتام في مأدبة صناعها ذئاب لئام.
إن هرولتنا في مسعى القوم لحل مشاكلنا، حركة في غير سياق العقل ولا النقل، ولا يمكن أن يستسيغها الضرع فضلا عن أن يقر بها الشرع، فهي إذن حركة عبور مائلة حائفة لم نجن من ورائها غير الظلم الفادح والشقاء الفاضح للصالح منا والطالح، فهي حركة ولدت تحمل بين طياتها بذور فنائها، لأنها تعاطت لهذا الطرح بإيديولوجية تربى الفكر الانفصالي في محاضنها، ورضع مادة حياته واستهلاله منها، إنها الإيديولوجية العلمانية التي تعطي الهامش تلو الآخر للكر على المادة الأصلية والأصيلة التي يجب أن تربط بيننا.
إنها المادة التي تنصهر في بوتقتها الأخلاط والألوان والألسن، وتندرس تحت رحاها أطياف من النعرات التي تسبب عدوى الانفصال والتفرقة، إنها مادة الإسلام التي توثقت بها العرى والتي لا فرق في محيطها بين عربي وأعجمي، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين شعوب شمال وشعوب جنوب إلا بالتقوى، ولا نملك بعد هذا التلميح إلا أن نحيل من شك ويشك في شعور الغرب تجاهنا، ونظرته الباطرة لحقنا الغامطة لجنسنا، نحيل الذين لا يزالون على غيهم فاتحين صدورهم للطرح الصليبي؛ أولئك المستغربين النابتين اليوم بيننا؛ ضحايا النفاق، نحيلهم بعد ذلك التلميح على هذا التصريح لأحد علماء القانون الفرنسي وهو يقول: “إذا قلنا: سيادة شعب، فلا يعني هذا شعوب مدغشقر أو إفريقيا الاستوائية أو مسلمي مراكش..! إن حقوق الإنسان والمواطن لا تطبق ولا تراعى إلا لصالح الشعب الفرنسي بالقارة الأوربية.. فالوطني في مدغشقر أو الهند الصينية مهما بلغت مكانته الاجتماعية وثقافته وعلمه لا يعتبر مساويا للفرنسي الأوربي”.