المجاهرة بالمعاصي

من أظلم الظلم أن يسيء المرء إلى من أحسن إليه؛ وأن يعصيه في أوامره وأن يخالف تعاليمه، ويزداد هذا القبح وذاك الظلم إذا أعلنه صاحبه وجاهر به ولم يبال بمن رآه أو سمعه حتى لو كان هو الذي أحسن إليه وجاد عليه وتكرم وتفضل.. فما بالك أخي الكريم إذا كان المحسن المتفضل هو الله تعالى، والعاصي المجاهر هو أنا وأنت.. إنها بلية عظمى ورزية كبرى أن يتبجح المرء بمعصيته لله عز وجل ويعلنها صريحة مدوية بلسان حاله ومقاله ناسياً أو قل متناسياً حق الله وفضله عليه.
لذا حذر الشرع المطهر من مجاهرة الله بالمعصية وبين الله تعالى أن ذلك من أسباب العقوبة والعذاب فمن النصوص الدالة على ذلك قوله تبارك وتعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” هذا الذم والوعيد فيمن يحب إشاعة الفواحش فما بالك بمن يشيعها ويعلنها.
وقوله تبارك وتعالى: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: “(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بأن النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي وقال أبو العالية: (من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة) تفسير ابن كثير.
كما أخبر سبحانه بأنه لا يحب الجهر بالسوء: “لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ” قال البغوي رحمه الله في تفسير هذه الآية: (يعني لا يحب الله الجهر بالقبح من القول إلى من ظلم) تفسير البغوي
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله: “كل أمتي معافى إلا المجاهرين” متفق عليه.
وهكذا سنة الله تعالى في الكون فما أعلن قوم التجرؤ على الله بالمعاصي والتبجح بها إلا وأهلكهم الله وقضى عليهم ودمرهم.. والمتأمل في سير الغابرين والأقوام السالفين يجد ذلك جلياً واضحاً فما الذي أهبط آدم من الجنة؟ وما الذي أغرق قوم نوح؟ وما الذي أهلك عاداً بريح صرصر عاتية؟ وما الذي أهلك ثمود بالصاعقة؟ وما الذي قلب على قوم لوط ديارهم وأتبعها بالحجارة من السماء؟ وما الذي أغرق فرعون وجنده؟ وما الذي..؟ وما الذي..؟ إنها المعاصي والمجاهرة بها.
فالله تعالى هو القوي والبشر هم الضعفاء؛ والله هو العزيز وهم الأذلاء بين يديه؛ وهو الكبير المتعال فله الكبرياء المطلق والعظمة الكاملة.
ولعل من أسباب قبح المجاهرة بالمعصية وزيادة شناعتها أن فيها نوعاً من الاستهانة وعدم المبالاة وكأن لسان حال هذا العاصي لله تعالى يقول: أعلم أنك ترى مكاني وتسمع كلامي وأنك علي رقيب ولعملي شهيد.. ولكن مع ذلك كله أعصيك وأعلن ذلك أمامك وأمام كل من يراني من خلقك!
ومن أسباب شناعتها وقبحها أن فيها دعوة للناس إلى الوقوع في المعاصي والانغماس في وحلها.. حيث إن هذا البارز لله بالمعصية يدعو بلسان حاله كل من رآه أو سمع به؛ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “..ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً” رواه مسلم.
ومن أسباب قبحها أن الذي يفعل المعصية جهراً قد يستمرئ هذا الفعل ويصبح عنده أمراً عادياً فربما أدى به ذلك إلى إباحته واستحلاله ولاشك أن استحلال المعاصي واستباحتها من أخطر الأمور على عقيدة المسلم.
ولقد تفشى بين بعض المسلمين -هداهم الله- هذا الداء العضال وسرى في جسد الأمة حتى لا يكاد يسلم منه بلد أو حي أو مجتمع ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومن صورة المجاهرة بالمعاصي التي ابتلي بها بعض المسلمين:
التخلف عن الصلاة مع الجماعة -مع القدرة عليها- قتجد أحدهم يدخل منزله والصلاة تقام فلا يلقى لها بالاً ولا يكترث ولا يهتم بها وكأن النداء فيها لغيره من الناس، ومنهم من يقدم مشاهدة مباراة في كرة القدم أو غيرها على حضور الجماعة؛ والأدهى من ذلك والأمر أن يمارس البعض مهمته من بيع أو شراء أو نحو ذلك في أثناء إقامة المسلمين لهذه الشعيرة العظيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله. في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: “لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخالف إلى منازل قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم”. رواه البخاري ومسلم.
ومن صور المجاهرة الدعوة إلى المعاصي والكبائر والإعلان عنها وإذاعتها كما يحصل ذلك في الإعلان من تجارة ربوية أو المساهمة في بنك يتعامل بالربا أو مبيعات محرمة أو الدعوة إلى مشاهدة عروض غنائية أو حفلات مشتملة على الأغاني والموسيقى والطبول والمعازف ونحو ذلك..
ومنها التبرج الفاضح والعري السافر الذي ابتليت به كثير من النساء المسلمات دون استحياء من رب الأرض والسماوت.
وإلى كل أولئك نقول توبوا إلى الله واستغفروه وأنيبوا إليه واعلموا أن ربكم رؤوف رحيم يقبل التوبة عن عبادة ويغفر السيئات ويتجاوز عن الخطيئات “وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”
ثم إنه من قارف الذنب ووقع في المعصية ثم استتر بستر الله ولم يتبجح ويجاهر بها كان ذلك أدعى إلى التوبة وأرجى للإقلاع عن المعصية والندم على فعلها وعدم العودة إليها.
وفي الصحيحين عن محرز المازني رحمه الله قال: بينما أنا أمشي مع ابن عمر رضي الله عنهما آخذ بيده إذ عرض رجل فقال: كيف سمعت رسول الله يقول في النجوى قال (ابن عمر): سمعت رسول الله يقول: “إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال: “سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم” فيعطي كتاب حسناته..” متفق عليه.
أسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين وأن يوفقنا لما يحب ويرضى وأن يتجاوز عنا ويغفر لنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *