خواطر صادقة حتى لا يتكرر صنيع الحرق الشنيع عبد المغيث موحد

لا شك أن أي وقفة تأمل في ظل قراءة إيمانية لقضايا العمر الذي تتحرك في فلك ساعاته مسيرة حياة أي نفس منفوسة، توقف هذا المتأمل بعين الحكمة على كون هذا العمر هو لحظة معاشة على الحال، محشورة بين اجترار مقال سالف وأماني مآل خالف، وبين ذاك السالف وهذا الخالف رأسمال زائف؛ موعود بالتعزية التي قررها ربنا كمصير لأي حياة معاشة، مصداقا لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ}.

وجدير بالذكر أن لحظة الحال هذه لا تخلو من كونها وعاء امتحان وفتنة ابتلاء، تتأرجح حصيلتها بين فلاح التزكية وخيبة التدسية، وما يلزم من الأمرين من حصول فوز الزحزحة أو خيبة الكبكبة مع ارتفاع صكوك المعذرة، واستقواء آليات الحجية من إرسال رسول وتنزيل فرقان ومحجة بيان.
وكون لحظة الحال هذه أمسها بقيعة وغدها سرابا، يدفعنا دفعا صوب الاستفهام عن البواعث الأسدية التي تحمل المسلم العاقل المكلف على إعدام نفسه، وإزهاق روحه، بسادية لا مثيل لها حتى في ظل حياة الغاب.
مستيقنين مع هذا الاستفهام، أن صدور هذا الحكم من منفذه، وتوقيعه على روحه التي تحرك خشبة جسده، ليس تنفيذا يمكن أن تشفع له تبريرات من قبيل: أن هذا الإقدام الخارق لأصول الفطرة السوية؛ هو نتيجة فعلية وترجمة تركية لزاهد في الحياة على قدرة وقناعة منها، أو أنه تجلي سلبي لشخصية آثرت رفض مجاراة أخلاط بشرية، ارتضت من غير وعي وغيبوبة قهرية، طأطأة الرأس انكسارا بمذلة؛ وخضوعا بمزلة لحياة ممسوخة، تأكسد في محيطها الاستغراب بالاستعراب، والاستبداد بالاستعباد.
وقد لا يكون مرادنا من هذا الكلام محاولة رفع الملام، أو إيجاد مخارج شبه شرعية تشفع لهذا المنتحر المحنود الجثة صنيعه البائس، أو تلف جريمته ضد أمانة الحياة بوسام الشهادة وإكليل البطولة الهولاكية، فشرعنا ولله الحمد في هذا الباب واضح الدلالة قاطع الملامة، حتى ولو كان المنتحر في ساحة وغى الجهاد يكر ولا يفر، ويعمل صارمه في نحور الكفرة الفجرة كما نقل ذلك في السنة العطرة، فلا الجهاد يشفع له صنيعه، ولا ربّ العباد يقبل معذرته، ومن باب أولى إذا كان وراء هذا القتل؛ إخلاد إلى خصومة خبز لم يشبع منه سيد الخلق وصحابته.
فقضية الحكم الشرعي هنا، هي قضية محسومة بشكل لا يقبل مزايدة ألفاظ، أو مناقصة تبريرات هي على الحق والصدق، وإن كانت تملأ عيون البعض في هذه الدنيا، فهي وباليقين لا تنهض حجة لقاتل نفسه حرقا يوم مثوله بين يدي ربه.
لكن هذه الحقيقة لا يمكن أن تحجب مناخيلها الشرعية حقيقة من نوع آخر، نستدرك معها لنقول: أن الرّق المسلط على المستضعفين في زوايا قائمة في الأرض، قد يحول بين المرء وقلبه، فيقطع عليه هامشا من فسحة الأمل ولو لهنيهة من الوقت، قد لا تعد شيء مذكورا في حركة الزمان وسيرورة الأعمار، ولكنها هنيهة قد تكون كافية فاعلة في مجالها إذا ما انضاف إليها انطفاء جذوة الإيمان، وانقطاع حبل الصلة بين المسلم ومشروع آخرته المنشود، إذا ما سقي هذا الانفصام بعلقم سوء التقدير، وجهالة الفهم لمراد الله من إرادته الكونية، ولابس هذا السقي على طول الجدول قوة انشداد القلب إلى إيثار الدنيا، والإخلاد إلى ملذاتها إخلادا يصفد المسلم بشراك الغريزة المائلة، وحبال الشهوة الجامحة، وتم هذا كله في محيط عولمة قاهرة، سلطت علينا سيفها الإقليمي، وإعلامها الأحادي الذي نجح في تعهير الأخلاق، وترهيل روابط المروءة الأصيلة في نفوس الكثيرين من ضحايا النفاق الحداثي والسياسة الغوغائية، وأعطى لتمظهرات المروق الفاحش هامشا من الوصلات الإشهارية، التي تنقل الرذيلة وعشق الحياة على طبق الفور بالصوت والصورة لمعشر الراغبين في الدنيا، والذين لا خلاق لهم فيها..
ناهيك عن تسفيه القوة العلمانية للخطاب الديني، الذي اعتنى بتربية الناس على المودة الأخروية من خلال البشارة بالوعد، والنذارة بالوعيد، ونعته بالظلامية والخرافة والسلبية عبر الركون إلى الغيبيات، والانسحاب الكلي من ساحة الإنتاج والتفاعل الايجابي.
ويا ليت شعري؛ أي انسحاب وأي سلبية في خطاب يرد اليائسين إلى فسحة الرجاء، ويعيد السقط إلى رحم البقاء، ويربط الناس بخالقهم ومقدر أرزاقهم ومدبر آفاقهم ربطا يتيح الفرصة لاقتحام العقبة، فيوقظ الهمم المتخالدة إلى التواكل واليأس، ويحول وجهتها صوب القومة الفاضلة المرشدة بضوابط الشرع، قومة لا تنتهك فيها حرمة أرض، ولا يغتصب فيها عرض، ولا يراق فيها دم، ولا يحند فيها جسد بنيران اليأس والقنوط، فتسن في بلاد الإسلام السنة السيئة التي على مبدعها الأول وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة؛ قومة تولد فيها الجهود الصادقة التي تتكفل بكنس الشوائب والدخائل بكل لطف ولين، وتتكفل بخلق أدوات ناجعة لنشدان الحق بوسائل شرعية هي من صميم الفطرة والعقل، ومن كنه الصبغة والنقل، البعيدة كل البعد عن احتجاج صورته صبّ البنزين وإضرام النار في أمانة الجسد..
ولن يتحقق هذا المراد إلا إذا عدنا حكاما ومحكومين إلى ديننا الحنيف لنقوي صلتنا بعراه، ونوثق الأواصر بهداه، ونستفيد من سلعته الغالية وطائفته الناجية، استفادة يصير معها إيماننا الراسخ ويتحول من كونه مجرد قوة نفسية إلى قلعة محصنة يعتصم بها الفرد عند الشدائد والمحن، وتنأى بها الأمة عن الأخطار المحدقة والعاديات المعربدة، وتتهافت عند أسوارها دعاوي العلمانية المحاصرة لدين النصيحة والمعاملة في أديرة الشعيرة المستفرغة، والمنفكة عن لوازم التعاطي المحموم للحياة وقضاياها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بدعوى أن ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ضدا في الحقيقة التي مفاد ترجمتها قول الله تعالى، ومن أصدق من الله قيلا: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *