في خضم تداعيات الذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأثناء استحضار جملة من الوزراء والحقوقيين والمفكرين للمكتسبات التي حققها المغرب في هذا المجال، وتجاوزه لسنوات الرصاص وما صاحبها من ظلم واستبداد، والعزم على تولية الظهر لهذا الماضي الأليم الذي شهد تجاوزات خطيرة وانتهاكات مجحفة لحقوق الإنسان، في ظل هذه المكتسبات كلها -على حد تعبير من ذكرنا- يصر حماة حقوق الإنسان على تجاهل حقوق مئات الآلاف من المغاربة الذين سلبت حقوقهم وأغلقت في وجوههم جمعيات كانوا إلى الأمس القريب يستفيدون من أنشطتها، بمحو الأمية وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وأحكام علم التجويد، وما لا يسع المسلم جهله في أمر دينه.
ألم تنتهك الجهات التي أغلقت دور القرآن حق الآلاف من النساء والرجال والأطفال في التعليم؟
أم أن المقصود بالتعليم في حقوق الإنسان هو التعليم العلماني؟
لقد كانت الجمعيات القرآنية في المغرب رائدة في مجالها، إذ عملت ومن غير دعم مادي من الجهات المختصة، على تأهيل شريحة واسعة من المجتمع المغربي بحكم تعدد أنشطتها الثقافية والدينية، فاستفاد منها مئات الآلاف من المغاربة على اختلاف مستوياتهم التعليمية والثقافية، وعرفت هذه الجمعيات بصحة معتقدها واعتدال منهجها وبعدها عن التطرف والغلو..
غير أنه -وبغير سابق إنذار- وفي العشر الأواخر من شهر القرآن تم إغلاق هذه الجمعيات القرآنية من غير جريرة ولا ذنب، اللهم إلا شبهة هي أوهن من بيت العنكبوت، وهي علاقة هذه الجمعيات بالدكتور المغراوي صاحب فتوى زواج الصغيرة، وهي علاقة نفتها الجمعيات المصادرة حقوقها وكذا الدكتور المتابع من طرف محاكم تفتيش الرأي!
ثم إن دور القرآن الكريم اسمها يدل على نوعية نشاطها، فهي تعنى بتحفيظ كلام الله وتدريس قواعده وترسيخ ثوابت المغاربة، فالعجب كل العجب كيف صارت محاسنُ هذه الدور هدفًا لسهام مسمومة! ومقالا لمطاعن حاقدة، لكن كما قال البحتريُّ:
إذا محاسِنِي الَّلاتي أُدِلُّ بها كانت ذنُوبِي فَقُلْ لي كيفَ أَعْتَذِرُ؟
فلماذا تم إقصاء هذا الملف الخطير من النقاش حول الانتهاكات التي عرفها المغرب في مجال حقوق الإنسان سنة 2008؟
أم أن حقوق الإنسان التي تناولتها النخبة بالنقاش لا يدخل في جملتها المستفيدين من أنشطة الجمعيات القرآنية التي وصدت أبوابها في شهر القرآن؟
لقد ذكرني تزامن إغلاق دور القرآن في العشر الأواخر من شهر القرآن بحادثة مقتل الرئيس الراحل صدام حسين -رحمه الله تعالى- حين أقدم المحتل الغاصب على إعدامه على يد الروافض -مجوس الأمة- في عيد الأضحى المبارك، في إشارة قوية لتحطيم معنويات الأمة وإدخال الحزن عليها يوم فرحها، فماذا يعني إغلاق دور القرآن أمام مرتاديها وقت ذروتها، في شهر تكتظ فيه جنباتها بالتالين لكتاب الله تعالى، الذاكرين له آناء الليل وأطراف النهار، وينساب الناس إليها في صلاة التراويح حتى تزدحم الشوارع المحيطة بها؟
ألا يمكن عد هذا التعسف تحطيما لمعنويات الآلاف من المغاربة، وإدخالا للحزن عليهم في شهر فرحهم بنزول كتاب ربهم؟
لقد شهد بفضل دور القرآن والمجهودات الجبارة التي تقوم بها الموافق والمخالف، وعمَّ خيرها لا أقول كل حي توجد فيه بل كل مدينة توجد بها، كيف لا، وهي التي تعمل ليلا ونهارا على ترسيخ مبادئ الهوية، والعقيدة الصحيحة واللُّحمة الوطنية والدينية، والحرص على تنشئة الشباب وفق مبادئ كتاب ربهم وسنة نبيهم وحمايتهم من الانصهار في بوثقة الشبهات الخاطفة والشهوات العاصفة.
وكما قيل إذا ظهر السببُ بَطُلَ العجبُ، فدور القرآن منذ القدم كانت محط عناية ودراسة المستشرقين الغربيين، واليوم وبعد أن لبس الاستشراق ثوبا جديدا، وأصبح عمله أكثر تنظيما، أخذت مراكز الدراسات والبحوث التي تعنى بالإسلام على عاتقها مسؤولية دراسة هذا الدين دراسة دقيقة، بغية إيجاد مواطن القوة والضعف، فقد أفاد التقرير الأمريكي الذي نشرته مجلة “يو إس نيوز آند وورلد ريبورت” بعنوان “قلوب وعقول ودولارات” أن أحد أهم مصادر الأصولية الإسلامية والتشدد الإسلامي -والذي تحاربه أمريكا وفق دراسة للبنك الدولي- هي: المدارس الإسلامية التقليدية. ويقدِّر التقرير أن هناك حوالي نصف مليون طالب مسلم يتعلمون في هذه المدارس، وأنه لا بد من تشجيع ذويهم على سحبهم من هذا التعليم التقليدي إلى التعليم العلماني، الذي تنفق عليه برامج حملة الدبلوماسية الأمريكية العامة أكثر من مليار دولار. اهـ
فإذا فهمنا ما تضمنه التقرير أدركنا الأهداف التي من أجلها تمارس أمريكا على الدول الإسلامية الضغوط حتى تغير برامجها التعليمية وتغلق دور ومدارس تحفيظ القرآن ودراسة العلوم الشرعية، وأدركنا لماذا تصر أن نستبدل مقومات هويتنا الإسلامية بالثقافة الكونية المستمدة من حقوق الإنسان الغربي.
فإغلاق دور القرآن في المغرب لا يخرج -ولا شك- عن هذا، فمراكز الدراسات الغربية تعد التقارير، والمنابر الإعلامية العلمانية تجيش حملة التشهير بالإفك والبهتان والتزوير، والمسئولون يصكون بلاغات الإغلاق والحجب والتشميع؟
لكن من كان الله معه فلا يستوحش من شيء.
وإذا العنايةُ لاحظتْكَ عيونُها *** نَمْ فالمخاوفُ كُلُّهُنَّ أمانُ