الدين في انتخابات الرئاسة الأمريكية

من العبث أن نعتقد أن دولة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية، مساحة وسياسة وتقدما يمكن أن يتحكم فيها قرار رئيس قادم أو حتى حزب بعينه، فللولايات المتحدة خصوصية تميزها عن باقي الدول والكيانات السياسية الأخرى المنافسة لها.
وتتحدد ملامح هذه الخصوصية من كون الرئيس القادم أو السابق لا يمثل إلا نفسه، وبعض التوجهات الطفيفة لحزبه، فهو لا يغير في السياسيات العامة للدولة الأمريكية ولا يستطيع، إلا بقدر معلوم ومحدد، وغالبا ما يكون في الشكليات وطريقة التعامل، وليس في الثوابت والأصول.
ومن العبث أيضا أن نعتقد أن الأيدلوجية الفكرية والدينية المسيطرة على عقل رئيس أكبر دولة راعية للمسيحية في العالم هي أيدلوجية إلحادية أو علمانية أو حتى مناهضة للتوجه الديني العام لهذه الدولة، لذلك فمسألة الدين بل والطائفة الدينية من المسائل الضرورية والهامة عند اختيار رئيس أمريكا.
كذلك فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال الفصل التام بين ما هو ديني وما هو سياسي في أمريكا، حيث التداخل الكبير بين الجانبين، وهو أمر ليس بمستغرب على دولة تتباها بنصرانيتها، وتدعي أن شعبها هو الشعب المختار، ومن ثم فهي تسعى بشكل عجيب في نشر مبادئها وقناعاتها الدينية في كافة أنحاء العالم.
وبالنظر إلى المرشحين باراك أوباما وميت رومني، يتضح لنا قوة الارتباط بين ما هو سياسي وما هو ديني، حيث حاول كلا المرشحين الظهور بمظهر الرئيس المحافظ، فكثيرا ما أعلن الرئيس أوباما أنه بروتستانتي يؤمن بكل معتقدات البروتستانت، وأنه لن يعمل ضدها أبدا في يوم من الأيام.
وقد ظهر ذلك بشكل عملي في فترة حكم أوباما، فرغم إيمانه بالفكر الليبرالي إلا أن هذا التوجه لم يؤثر في يوم من الأيام على المسألة الدينية، ولم نسمع عن خرجات فجة منه -كما نرى في عالمنا العربي والإسلامي- على النسق المسيحي العام، والروح المسيحية التي يؤمن بها غالب الشعب الأمريكي.
والأمر عند ميت رومني أشد وضوحا، فمن المعروف عنه أنه بدأ حياته كمبشر ثم انتقل بعد ذلك إلى عَالَم المال ثم إلى السياسية، ورغم هذه التنقلات إلا أن تمسكه بعقيدته ظل ملازما له، وكثيرا ما أعلن هذا في خطاباته، حيث قال في إحداها: “يتمنى البعض أن أُقصِي نفسي ببساطة عن ديني -يقولون: إنه مجرد تراثٍ وليس قناعة شخصية- أو أن أتنكر لبعض مبادئه، إن هذا لن يحدث، إنني أؤمن بعقيدتي المورمونية وأسعى إلى أن أحيا بها، إن عقيدتي هي عقيدة آبائي، وسأظل وفياً لهم ولعقائدي.. قد يعتقد البعض أن هذا الاعتراف بعقيدتي سيفقدني ترشُّحي؛ إن كانوا على حق، فليكن ذاك!”.
والمورمونية هي إحدى الطوائف الدينية المسيحية الصغيرة في الولايات المتحدة، حيث تشكل نحو 1.7% من عدد السكان، ويُعرف عنها أنها من الطوائف شديدة التمسك بدينها وقناعاتها وسلوكها الشخصي.
وهي تختلف مع المعتقد البروتستانتي الذي يعتقده غالب الشعب الأمريكي، ولذا فهي منبوذة، وعلى رأس هذه الاختلافات أنها لا تعتقد أن ثالوث (الأب، الابن، روح القدس) إلهاً واحداً، كما يعتقد البروتستانت، بل تعدُّها ثلاثة آلهة مستقلة.
بهذا يتضح أن الصراع الرئاسي في أكبر دولة في العالم كأنه قد انحصر بين مُتدين مبشر بمذهبه وليبرالي محافظ على تعاليم دينه، وهو مشهد كثيرا ما تكرر في انتخابات أمريكا، حيث يعد عامل الالتزام الديني من الشروط اللازمة لدخول المرشح في أتون هذا الصراع، والوصول فيه إلى مراحل متقدمة، لا كما تزيف النخب العلمانية والليبرالية في عالمنا العربي والإسلامي، التي ترى في معاداة الدين وربما الإلحاد والعلمانية شرطا أساسيا لرئاسة الدولة، والتي كثيرا ما تؤكد على أن الدولة لا دين لها، وأنه لا يصح الخلط بين الدين والسياسة.
فمنذ اللحظة الأولى لتولي الرئيس المنتخب زمام الأمور في أمريكا، يبدأ الخلط بين ما هو ديني وما هو سياسي، ويتضح هذا في نص القسم، حيث ينص الدستور الأمريكي أن القسم الرئاسي يجب أن يكون: “أقسم (على الكتاب المقدس) وأقر بأنني سوف أقوم بتنفيذ متطلبات منصب رئيس الولايات المتحدة بكل أمانة وسأبذل كل جهدي للحفاظ على دستور الولايات المتحدة وحمايته والدفاع عنه”.
وقد أصبح من المتعارف عليه والسائد في مسألة القسم زيادة عبارة “ساعدني يا رب”، وهي العبارة التي حرص عليها أوباما في قسمه في ولايته السابقة، وهي عبارة تعود إلى الرئيس الأول جورج واشنطن عندما أضافها إلى القسم عام 1789م، ومن ثم أصبحت تقليدا متبعا لما خلفه من رؤساء.
مركز التأصيل للدراسات والبحوث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *