يقول عز شأنه وتقدست أسماؤه “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ”، نعم لا يعتبر به إلا من له عقل متقد وبصر نافذ والسعيد من وعظ بغيره، فالكل مأمور باتخاذ العبر أيا كان موقعه أو مكانته، وليس الخطاب موجه لفئة دون أخرى، أو صنف من الناس دون آخر، لأن عاقبة الأمر تلحق كل من لم يأخذ العبرة من الأشياء حوله، والتي يصرفها الله عز وجل للاعتبار، وكذا وقائع التاريخ التي يتم ذكرها للعظة سواء في القرآن والسنة أو في كتب التاريخ.
قد يكون من روافد الحكمة تجنب أفعال السفهاء، وهكذا تكون العقول المتبصرة والقلوب المعتبرة “فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ”، فقد قص الله علينا في القرآن الكريم خبر من اتخذ بطانة السوء فأوردته موارد الهلاك وكانت سبب محنه وبلاياه، بل وزواله وذهابه ليصير ذكرى من التاريخ، ليعتبر بها المعتبرون ولا يعبأ بها الحالمون بالسراب، والحر تكفيه الإشارة.
لقد كان لفرعون حاشية سوء وبطانة جرم فزينوا له الباطل ومنوه بالسراب حتى صار آية لمن خلفه بعد أن أغرقه الله، ولو كان بجانبه نصحة مؤتمنون لما أوردوه الهلاك، ولكنهم ملأ الباطل الذين قالوا له “أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ”؛ إنهم يزيدونه جمرة في نار غروره، ونغمة في أوتار كبريائه، وبللا في طين عناده، وكذلك يفعل ملأ السوء في كل زمان فكيف كانت العاقبة؟ “فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِين” وبئس النهاية.
لقد مات أبو طالب على الكفر -وهو الذي قدم للدعوة ما قدم- بعد أن قال له النبي صلى الله عليه وسلم: “يا عم: قل كلمة أحاج لك بها يوم القيامة”؛ ولولا حاشية الكفر لمات على الإسلام، إذ حالوا بينه وبين كلمة التوحيد -بمشيئة الله-وزينوا له ملة الآباء والأجداد، فمات عليها.
ولقد كاد قيصر عظيم الروم يسلم لولا بطانته الفاسدة؛ إذ لما أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي يدعوه بدعاية الإسلام وقر الحق في قلبه ولكن ماذا حدث؟
جاء في صحيح البخاري أن هرقل دعا عظماء الروم فجمعهم في دار لهم فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد وأن يثبت لكم ملككم؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت، فقال:عليّ بهم، فدعا بهم، فقال: إني إنما اختبرت شدتكم على دينكم، فقد رأيت منكم الذي أحببت، فسجدوا له ورضوا عنه، وبئس مستشار السوء.
وبعض من حاشية السوء كان شره عاما على المسلمين وليس على من جعله وزيره وجليسه فحسب؛ إنه ابن العلقمي وزير المستعصم آخر خلفاء بني العباس، ذاك الرافضي المحترق الذي سول وأملى، وزين وأخفى حتى كان سببا في ضياع الأمة وهلاك الخليفة وزوال الخلافة بما مكن للتتار في بلاد المسلمين، إنها حصائد بطانة السوء.
القرآن الكريم كلام رب العالمين يوجه البشرية ولاسيما من رضي منهم بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا؛ فقال تعالى في محكم التنزيل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ” فهذا تحذير قوي من اتخاذ بطانة السوء جلساء وخلانا لأي إنسان مهما كان، لأنهم أحرص على هلاك من يكونون بجانبه وإن أقسموا الأيمان المغلظة على الوفاء والنقاء، “لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ”؛ إنهم أحرص على إفسادكم ولا يسرهم إلا ما يسوؤكم فكونوا على حذر، ولا يزين مجالسكم إلا الأبرار الأتقياء الخلص في النصيحة، الأصفياء في السريرة، تمثلا لوصية نبي الهدى والرحمة “لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي” (صحيح الجامع).
إن بطانة السوء قد تكون زوجة وذرية يوردون موارد الهلاك، “إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ”، ومن ولى أمره امرأة ما أفلح؛ الواقع أقوى شاهد وأوضح برهان، ومن جعل رأيه للصبيان هان، وربما تكون البطانة رفقاء سوء، قال تعالى: “وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً، َقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً”، نزلت في عقبة بن أبي معيط حين أمره رفيقه أمية بن خلف أن يبصق في وجه النبي صلى الله عليه وسلم إبراء لذمته وإرضاء لخليله ففعل قبحه الله فنزل فيه ما نزل.
فليحذر كل منا بطانة السوء التي تخرب دينه ودنياه، وليسأل الله بطانة الصلاح والتقى، فاتخاذها زينة المجلس دأب العقلاء، ولنعم ما قال الفاروق عمر الخبير بفضل بطانة الخير ومكانتها في فسطاط الناس لاسيما أهل الرياسة منهم، فقد قال لبعض الصحابة يوما: “تمنوا فلما أنهوا أمنياتهم قال عمر: وددت أن لي رجالاً مثل عمير بن سعد أستعين بهم في أعمال المسلمين” كما في حلية الأولياء.
وعند ابن عساكر”أنا أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان أحسب أنه قال (الراوي): أستعين بهم على أمور المسلمين”.
لذلك فإن من لم يأخذ العبرة من وقائع التاريخ، فليأخذها من حقائق الواقع؛ فهو أقوى برهان وأكبر شاهد على أن بطانة السوء تسوء، وخلان الباطل يزينون الباطل، وحاشية الشر يقودون لنهاية مأساوية.
فقد خرج الرجلان ومن يتبعهما من حكم عمروا فيه طويلا في حقارة وذلة بالغة، وتلك عاقبة من جعل كتاب الله وراءه ظهريا؛ لأنه من تركه من جبار قصمه الله؛ ومن ابتغى الهدى في غيره أضله.
اللهم ارزق ولاة أمرنا البطانة الصالحة وجنبهم بطانة السوء فضلا منك ومنة يا رب.