كل نقص وبلاء فسببه الذنوب ومخالفة أوامر علام الغيوب

من المقرر شرعا أن “كل نقص وبلاء وشر في الدنيا والآخرة، فسببه الذنوب، ومخالفة أوامر الرب، فليس في العالم شر قط إلا والذنوب موجبتها”1.

وبناء على هذا المفهوم الرباني، كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، يُرجعون كل مصائبهم وهمومهم وما يجري حولهم من أحداث إلى ما كسبت أيديهم.
حتى إذا شاكت أحدهم شوكة، أو أصابته سعلة، أرجع ذلك إلى ذنب فعله، أو إثم اقترفه، عملا بقوله عليه الصلاة والسلام: “لا يصيب رجلا خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق، إلا بذنب، وما يعفو الله أكثر”2.
ومن نفيس ما قيل في تفسير قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) ما جادت به قريحة الحافظ ابن كثير رحمه الله حيث قال: “أي: عن أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو: سبيله، ومنهاجه، وطريقته، وسنته وشريعته…”.
(أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم) “أي: في الدنيا بتقتيل أو حد أو حبس أو نحو ذلك” 3.
ومن روائع التنبيهات الجياد ما ذُكر عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه ومجاهد رحمه الله في تفسير قوله سبحانه: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ..).
قالا: “(من فوقكم) يعني الأمراء الظلمة، (أو من تحت أرجلكم) يعني السفلة وعبيد السوء..”4.
وليعلم أنه ليس القصد من هذا الذي قررناه أن ننكر السنن الكونية، ولا أن نجحد شيئا من الأسباب في ذلك، لأن الله هو الذي خلق هذه الأسباب ورتب عليها أفعالا، فتنبه لهذا ولا يخلطن الشيطان عليك الأمر فيقذف في قلبك خلاف الحقائق الشرعية، فكل من عند الله، وكل من أمر الله..
إن هذا المفهوم الحق -مفهوم ما أصابنا بما كسبت أيدينا- أصبح في أيامنا هذه أيام الفتن وأزمنة الوهن مع الأسف الشديد نسيا منسيا ليس عند عموم الناس فحسب بل عند كثير من النخبة والله المستعان، ونخشى أن نسمع من ينكره في وقت ضاعت فيه عند الكثيرين اللغة الشرعية، والنظرة الأثرية، ونخشى أكثر أن يجعله البعض (خطابا سلبيا) أو (هروبا وانهزامية) أو ( تغريدا خارج السرب) أو (ضعفا في التصور) أو (عدم فقه للواقع) (!!)… ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
“فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضوع، وليتب إلى الله تعالى وليستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأفعاله كذلك، كلها حكمة ومصلحة، ورحمة وعدل”5.
ومن غريب آثار الذنوب، وسريان سمها الخفي، وكيدها القوي ما ورد في حديثين عن نبينا عليه الصلاة والسلام جديرين بالتأمل:
أولا: قوله عليه الصلاة والسلام: “نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم”6.
الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: “ما تواد اثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما”7.
وقال ابن خيرة رحمه الله -وكان من أصحاب علي رضي الله عنه-: “جزاء المعصية: الوهن في العبادة، والضيق في المعيشة، والتعسر في اللذة، قيل: وما التعسر في اللذة؟ قال: لا يصادف لذة حلال إلا جاءه من ينغصه إياها”8.
واستمع لما قرره الإمام ابن تيمية رحمه الله في خصوص الغلاء بارتفاع الأسعار حيث قال: “فالغلاء بارتفاع الأسعار، والرُّخْصُ بانخفاضها هما من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله وحده، ولا يكون شيئا منها إلا بمشيئته وقدرته، لكن هو سبحانه قد جعل بعض أفعال العباد سببا في بعض الحوادث، كما جعل قتل القاتل سببا في موت المقتول، وجعل ارتفاع الأسعار قد يكون بسبب ظلم العباد، وانخفاضها قد يكون بسبب إحسان بعض الناس”9.
ولأجل هذا المفهوم الشرعي الذي بيناه جعل النبي عليه الصلاة والسلام النصر منوطا بدعاء الضعفاء وصلاتهم وإخلاصهم حيث قال: “إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم”10.
“ومعناه : أن عبادة الضعفاء ودعائهم أشد إخلاصا لجلاء قلوبهم من التعلق بزخرف الدنيا وجعلوا همهم واحد فأجيب دعاؤهم وزكت أعمالهم”11.
قال بكر المزني رحمه الله: “لما كانت فتنة ابن الأشعت قال طلق بن حبيب: اتقوها بالتقوى. فقيل له : صف لنا التقوى، فقال: العمل بطاعة الله، على نور من الله، رجاء ثواب الله، وترك معاصي الله، على نور من الله، مخافة عذاب الله”.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله معلقا: ” قلت: أبدع وأوجز، فلا تقوى إلا بعمل، ولا عمل إلا بترو من العلم والاتباع، ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله، لا ليقال: فلان تارك للمعاصي بنور الفقه، إذ المعاصي يفتقر اجتنابها إلى معرفتها، ويكون الترك خوفا من الله، لا ليمدح بتركها، فمن داوم على هذه الوصية فقد فاز”12.
فـ”ثمرة المحنة المحمودة أنها ترفع العبد عند المؤمنين، وبكل حال فهي بما كسبت أيدينا، ويعفو الله عن كثير، (ومن يرد الله به خيرا يصب منه)13، .. وقال الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ)، وأنزل تعالى في واقعة أحد قوله: (َوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وقال: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ).
فالمؤمن إذا امتحن صبر واتعظ، واستغفر، ولم يتشاغل بذم من انتقم منه، فالله حكم مقسط، ثم يحمد الله على سلامة دينه، ويعلم أن عقوبة الدنيا أهون وخير له”14.

……………………………………………….

1. المدارج للإمام ابن القيم رحمه الله 1/424.
2. عزاه السيوطي رحمه الله في الدر المنثور 2/597 لعبد بن حميد، وله شواهد كثيرة؛ أنظرها في صحيح الجامع رقم:7608 فما بعده.
3. تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله 3/319.
4. الجامع لأحكام القرآن 7/9 للإمام القرطبي رحمه الله، وانظر تفسير ابن جرير رحمه الله 11/319، وتفسير ابن كثير رحمه الله 3/276.
5. زاد المعاد لابن القيم رحمه الله 3/235.
6. أخرجه الترمذي رحمه الله في سننه رقم:988 وغيره وهو في صحيح الجامع رقم:6756.
7. أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في المسند 2/68 وغيره وانظر الصحيحة 637.
8. عزاه الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره 3/533 إلى ابن أبي حاتم رحمه الله.
9. مجموع الفتاوي 8/520.
10. رواه النسائي رحمه الله في سننه رقم:3118، وانظر صحيح الترغيب والترهيب 8/2.
11. عون المعبود 7/184
12. سير أعلام النبلاء 4/601.
13. رواه البخاري رحمه الله.
14. من كلام الإمام الذهبي رحمه الله كما في السير 8/80-81.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *