ظهور المحاكم الإسلامية..

بعد سقوط نظام سياد بري 1991م وانسحاب الولايات المتحدة من قوات حفظ السلام، واستمرار الحرب الأهلية ما يقرب من أربعة عشر عامًا كانت المحاكم الإسلامية الشرعية هي نظام القضاء في الصومال، ورأى القائمون على هذه المحاكم من العلماء أن يوسِّعوا دورها تلبيةً لحاجات الشعب المطحون؛ فبدأت المحاكم في تقديم خدمات مثل التعليم والرعاية الصحية، وأصبحت تمثل -يضًا- دور الشرطة، واستطاعت بكفاءة أن تسد مسألة الفراغ الأمني والقانوني، وأن تحد من نفوذ أمراء الحرب الأقوياء، وقامت بدور بارز في حماية الضعفاء بعد الانهيار الكامل لدعائم الدولة الصومالية.

دفع نجاح تجربة المحاكم إلى انتشارها في ربوع العاصمة مقديشيو، ثم اتحدَّت بالتحالف ما بين العلماء وطبقة التجار.
تتكون المحاكم الإسلامية من أربع عشرة محكمةً تجمع أطرافًا محلية، ترتبط عشر محاكم منها بقبيلة واحدة هي قبيلة (الهُويَة) التي تسيطر على مقديشيو، كما أن هناك بعض المحاكم المستقلة عن اتحاد المحاكم الإسلامية. كان يرأس هذه المحاكم الشيخ شريف شيخ أحمد، ويرأس مجلس الشورى فيها الشيخ طاهر عويس، وكان هدف المحاكم الإسلامية هو بسط القانون والنظام والعمل على غلبة الولاء الديني الإسلامي على الولاء القبلي.
كما يعتبر قادة الحركة أن من أهداف الحركة الأساسية إتاحة الفرصة للشعب الصومالي لتقرير مصيره بنفسه بعد أن عانى من تسلط أمراء الحرب سنوات طوالاً، ويقول شريف شيخ أحمد: إن المحاكم الإسلامية ليست حركة سياسية، بل هي شكل من أشكال الثورة الشعبية التي فجرها الشعب الصومالي بعد أن سَئِمَ ستة عشر عامًا من الفوضى والقتل والنهب والاختطاف.
كان ردُّ الفعل الدولي لقيام المحاكم الإسلامية وانتصاراتها على أمراء الحرب متوقَّعًا إلى حَدٍّ كبير، فنظرًا لكراهية الغرب لكل ما هو إسلامي، ومحاولته تشويه كل ما يتصل بالإسلام بسبب، فقد بدأ طوفان الشائعات والاتهامات الأمريكية والأوربية للمحاكم؛ فتارة يقولون إنها طالبان أخرى تريد أن تقيد حريات الصوماليين، وتفرض عليهم نموذجًا للإسلام يرفضه الغرب، وتارة أخرى يتهمونها بإيواء عناصر من تنظيم القاعدة ذلك الشبح الذي تستخدمه أمريكا لتخويف العالم من الإسلام، والحصول على تفويض بملاحقة كل مَن تبغضه في أي مكان في العالم دون مراعاةٍ لسيادة الدول، ورغم نفي قادة الحركة لكلا الاتهامين إلا أن الغرب الذي غضب من انتصارات قادة المحاكم اتخذ قرارًا جديًا وفوريًا بالسماح لإثيوبيا ذات الأطماع الواسعة في الصومال بإدخال قواتها لاحتلاله تحت غطاء مساندة الحكومة الصومالية وبدعم كامل من الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا.
وتحت هذا الغطاء حدثت أعنف المجازر في تاريخ الصومال، وتم تهجير مئات الآلاف من أبناء الشعب الصومالي المسكين؛ مما حوَّل الأمر من مواجهة بين القوات الإثيوبية الداعمة للقوات الحكومية الصومالية وبين المحاكم الإسلامية إلى مواجهة شاملة بين تلك القوات والشعب الصومالي بأكمله؛ فقامت “قبيلة الهوية” كبرى قبائل العاصمة الصومالية بالدعوة إلى قتال القوات الإثيوبية بالصومال وهي الدعوة التي أيدها عدد من علماء الصومال.
كما طالب شيوخ القبيلة -في اجتماع بمقديشو- المجتمعَ الدوليَّ والعالمَ العربي والإسلامي بالتحقيق فيما وصفوه بأعمال إبادة في الصومال.
وأدى القتال في الصومال إلى تقسيمه إلى قسمين، وهذا ما جعل شبح الحرب الأهلية يخيم على الصومال من جديد..
لقد انتصرت إثيوبيا والحكومة الصومالية المؤقتة في تلك الجولة، وبدأ مقاتلو المحاكم في الكرِّ والفرِّ ابتغاء طرد المعتدين، وفيما كانت الكفَّات في ميدان القتال متقاربة، فإنَّ الخاسر الوحيد على الأرض في تلك المعارك كان هو الشعب الصومالي الذي عمقت جراحه وساء وضعه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *